تتميز كندا عن بلاد الانتشار الاخرى بكثافة الشباب الجامعيين اللبنانيين الذين هاجروا اليها إبان الحرب الاهلية 75 - 90 إما بسببها وإما رغبة في متابعة التحصيل العلمي او بحثاً عن فرص عمل كريمة عن نظيرها في الوطن الام. واللافت انه على امتداد تسع سنوات ما زال هؤلاء الجامعيون يعانون من حال انفصام الشخصية وداء الاكتئاب حيال غربتين قاهرتين احداهما اشد مرارة من الاخرى، غربة الوطن وغربة الاغتراب. سعوا، عبثاً، وراء تطعيم شهاداتهم العلمية وتعزيز كفاءاتهم الاكاديمية والمهنية وتأهيل نفوسهم بالملكات اللغوية الاجنبية الفرنسية والانكليزية او الاثنين معاً، على امل بعودة مظفرة الى رحاب الوطن او العثور على عمل في مقالب الدنيا ان تعذر ذلك. ولكن الخيبة كانت واحدة هنا وهناك، وبالتالي لم يعد امام تعاظم المسؤوليات العائلية للمتزوجين من جهة وامام حسم حالة الضياع واللااستقرار لدى العازبين من جهة ثانية، الا الانعطاف القسري نحو قطاع مهني قطاع التاكسي لم يألفوه من قبل ولم يدر في خلدهم لحظة طيلة حياتهم. وتشير مصادر احدى نقابات مالكي سيارات التاكسي في مونتريال يرأسها فارس ابو ملهب - لبناني الى ان عدد اللبنانيين العاملين في هذا القطاع يتراوح بين 800 وألف سائق في مدينة مونتريال وحدها، في حين يذكر احد مالكي شركة كندير مايك ماهون في مدينة سان لوران اكبر تجمع لبناني ان الشركة تضم حالياً 150 سائقاً بينهم 90 في المئة من الشباب الجامعيين اللبنانيين من ذوي المهارة والاختصاص والكفاءة المهنية. اما السائقون اللبنانيون فيؤكدون ان الاقبال على هذه المهنة لم يكن بداعي الاحتراف وانما كان اساساً انحرافاً قسرياً عما كانوا يطمحون اليه وغدا اليوم وهماً وسراباً. فالتاكسي مهنة الضرورة ليس الا فهي لا غنى عنها لمن فقد عمله ادغار كيلاني، 35 عاماً، مجاز في الادارة العامة، انقطع عن عمله منذ اربع سنوات او هي اهون الشرّين اذا ما قورنت بالاعمال الوضيعة في المطاعم ومحطات الوقود نمر جلال، 32 عاماً، مهندس خريج الاتحاد السوفياتي، واحد من حوالي 30 سائقاً من زملائه الذين انهوا دراساتهم في الجامعات الروسية او الاوروبية الشرقية على نفقة الاحزاب اليسارية اللبنانية، وانقطعت عنهم مواردهم المالية بعيد سقوط الشيوعية. او هي مهنة بسيطة ومنتجة وعمل حر انت سيد نفسك فيه حسن شرف الدين، مدرس لبناني عمل خمس سنوات في مونتريال قبل ان يعود الى وظيفته. وخلافاً لهؤلاء يرى بعضهم ان التاكسي يمكن ان تشكل مقدمة لمشروع تجاري بيزنس حيث يمكن للسائق ان يصبح بعد فترة وجيزة، مالكاً لنمرة رسمية تتراوح قيمتها بين 50 و60 الف دولار، يدفع منها 25 في المئة عوض ان يستأجر سيارة مقابل 300 دولار اسبوعياً، اما البعض الآخر احمد غزاوي فانه لا يخفي احباطاته المزمنة على رغم ما هيأت له التاكسي من مستوى مادي جيد وعلمي رفيع ماجستير في ادارة المؤسسات حين يقول: "ينبغي ان اكون جالساً وراء مكتب وليس وراء مقود سيارة". هذا غيض من فيض مما يجيش في صدور العديد من الجامعيين اللبنانيين، فهم علاوة على ما يعانون من حالات "السترس" حين تتضاءل الغلة او حين تتعرض حياتهم للمخاطر او حين يرمون بالدونية المهنية والثقافية واللغوية والاتنية كما حصل اخيراً حين انبرى احد المذيعين الكنديين على شاشة التلفزيون بتوجيه التهم الى السائقين اللبنانيين ونعتهم بجهل اللغات السائدة وقوانين البلاد وشوارعها وتعريض سلامة المواطنين وابتزازهم، الامر الذي دفع نقابة السائقين اللبنانيين الى رفع دعوى جزائية على خلفية التمييز العنصري. وهكذا يتكشف، يوماً بعد يوم، عمق المعاناة التي يعيشها الجامعيون، والتي هي اساساً جزء من ازمة المثقفين اللبنانيين، مقيمين ومغتربين، ومؤشر خطير لتنامي ظاهرة البطالة في اوساطهم ما يدل على عقم النظام التعليمي اللبناني الذي ما يزال يضخ نظام العمالة على عقمه ايضاً، بأفواج العاطلين ممن يتخرجون سنوياً وبشكل عشوائي من مختلف الجامعات اللبنانية وعلى غير هدى او استرشاد بخطة انمائية وطنية تستوعب طموحات الجيل الجديد وحاجات البلاد الى التخصصات التي تواكب العلم والتكنولوجيا والتطور الحضاري. وما يخشى منه ان يبقى لبنان بلداً مصدراً لطاقات بنيه ويرمي بهم الى التسكع على ابواب السفارات الاجنبية طلباً لهجرة قد لا تسمن ولا تغني من جوع.