أول درس كان على العرب ان يتعلموه منذ زمن بعيد هو ان الهجوم هو افضل وسيلة للدفاع، وان المبادرة، أية مبادرة، تعطي نتائج افضل حتماً من الركود والانتظار والتقوقع، رأت في الحركة بركة خاصة واننا نعيش في عالم متحرك مليء بالمتغيرات والمفاجآت ومنطقة حبلى بالاحداث والتطورات والانقلابات في المواقف والسياسات والصداقات والعداوات في آن واحد! هذا الدرس كان يمكن ان يفيد العرب، وما زال، في التخلص من خطيئة انتظار الترياق من الآخرين، ومعه الحلول لمشاكلهم والأمن لديارهم وأوطانهم والسلام لمنطقتهم، فلا أحد في العالم مستعد لأن يوزع هدايا مجانية على القاعدين والساكتين عن الضيم، ولا أحد يعيد أرضاً محتلة اذا لم يجابه بموقف حازم وقوي، ولا أحد يمنح حقاً او حقوقاً بديهية وطبيعية اذا لم يكن وراءها مطالب عنيد ومتمسك بها ورافض ان يتنازل عنها او يساوم عليها او يتراخى في متابعة قضيته مع مرور الزمن. ولكن هل حان الآن اوان مطالبة العرب بالتخلي عن دور "المفعول به" الذي مارسوه طوال نصف قرن من الصراع مع اسرائيل، وربما منذ مطلع القرن! والانتقال الى ممارسة دور "الفاعل" الايجابي والحازم والموحد بحكمة وعن اقتدار لاثبات الذات وكسب احترام العالم والغاء مقولة ان العرب جامدون، عاطفيون يهبون قليلاً ثم يهدأون وينسون... وكأن شيئاً لم يكن. هذه "المطالبة" ليست جديدة... ولكن تكرارها مفيد، لا سيما عند الوقوف بمحطات مهمة او بسبب حدوث تطورات خطيرة او احداث لها مدلولات ونتائج وانعكاسات لا بد ان تؤثر على مجريات قضايانا وتحدد ملامح الحاضر والمستقبل ومصير الأرض والحقوق والسلام. ويخطئ من يظن ان مجرد حدوث تغيير في الشكل والمظهر في اسرائيل يعني ان باب السلام والأمن والاستقرار قد فتح على مصراعيه وان كل الآمال ستتحقق قريباً بمجرد "كبسة زر" أو صدور تصريح او التوصل الى اتفاق على معاودة استئناف مفاوضات السلام بعد انقطاع دام اكثر من 3 سنوات. فالمرحلة المقبلة اخطر بكثير من المرحلة الماضية، والتعامل مع عهد ايهود باراك اصعب من التعامل مع عهر بنيامين نتانياهو رغم ان المظاهر توحي بعكس ذلك. فنتانياهو، رغم صلفه وتعنته ومعاداته للسلام، كان صريحاً وواضحاً بل انه "نشر" نظرته السياسية وكشف عن اهدافه في كتاب مما ساعد في التعامل معه، او بالاحرى التصدي له بشكل مريح. وقد سبق ان وصفت نتانياهو بأنه اكبر "حليف للعرب" لأنه حقق لهم خلال 3 سنوات ما فشلوا في تحقيقه لأكثر من نصف قرن، فقد عرّى اسرائيل وكشف القناع عن وجهها الاستعماري التوسعي العنصري المتطرف القبيح، وحطم تكتل ليكود اليميني المتطرف وهزه من الاعماق وفتّت قواه التي كانت تجتمع على معاداة العرب والمطالبة بسحقهم وتحقيق حلم "اسرائيل الكبرى". كما انه عمل على توسيع دائرة الخلاف والانشقاق داخل المجتمع الاسرائيلي دينياً واجتماعياً وعرقياً. والأهم من كل ذلك فإن رئيس الوزراء السابق كان أول مسؤول اسرائيلي يعمل على دق أسفين في العلاقات المتينة بين الولاياتالمتحدة واسرائيل، وبين اسرائيل واللوبي الصهيوني، الى حد ما، اذ ان عهده شهد انقسامات حقيقية وصراعات بين مؤيدي ليكود ومؤيدي العمل وصلت الى حد المواجهات في مرحلة من المراحل. كما ان نتانياهو نجح في "حشد" التعاطف الدولي، حكومات ورأياً عاماً، لصالح العرب والفلسطينيين مقابل الاستياء والاشمئزاز من التعنت الاسرائيلي والعرقلة المستمرة لمسيرة السلام وتحدي العالم بإقامة المزيد من المستعمرات الاستيطانية ونسف المنازل العربية وقتل وتشريد واعتقال المدنيين العرب العزل من السلاح... والقائمة طويلة من زيارة الرئيس الفرنسي شيراك الى جولة وزير الخارجية البريطاني كوك... وصولاً الى المواجهة بين نتانياهو والرئيس بيل كلينتون وتهديده علناً باحراق واشنطن! وكلها مواقف اسهمت في زيادة حدة التباعد مع اسرائيل وصبت لمصلحة العرب ومواقفهم. وبالطبع فان نتايناهو لم يكن يسعى لهذه النتيجة ولكن غروره قاده الى هذه الهاوية، ونظرته المتعصبة الضيقة أودت به وأسقطته هذا السقوط المريع. اما ايهود باراك فهو مختلف في اسلوبه و"تكتيكاته" ويعمل معه فريق "علاقات عامة" يخطط لاصلاح التشويه الحاصل في صورة اسرائيل على يد سلفه وإعادة تلميع هذه الصورة وردم الهوة داخل اسرائيل عبر توسيع دائرة التحالفات في حكومته، بعد قائمته التي حملت اسماً له معنى مهم وهو "اسرائيل الواحدة" اضافة الى وصل ما انقطع من جسور وعلاقات وصلات خاصة مع الدول الاخرى. فباراك، كما ظهر في دعايته الانتخابية ثم في حملة العلاقات العامة بعد فوزه مستعد لاستئناف مسيرة السلام ويريد مواصلة سياسة اسحق رابين الذي حظي بعد اغتياله بتعاطف دولي، ولكن اي سلام... وبأي ثمن؟ لم يطرح احد في الاعلام الغربي والاسرائيلي هذه الاسئلة، وهذا ليس مطلوباً منه، ولكننا كعرب، علينا ان نطرح هذه الاسئلة وعشرات غيرها نظراً للتجارب المريرة السابقة مع حكومات العمل، وبسبب التناقضات في تصريحات باراك ومحاولته "التذاكي" علينا عبر ابتسامته الماكرة عند حديثه عن المستقبل؟ فالمفاوضات مع الفلسطينيين ستستأنف ولكن من دون القدس ولا عودة اللاجئين ولا سيادة لدولة فلسطينية مستقلة ولا حقوق ولا تفكيك للمستوطنات القائمة. والانسحاب من لبنان خلال عام... ولكن بالتفاوض لفرض شروط سياسية وأمنية وعسكرية تحمل في حد ذاتها بذور فتنة كبرى.أما مع سورية فإن باراك مستعد لاستئناف المفاوضات والانسحاب "من" مرتفعات الجولان... ولكن لا عودة لحدود الرابع من حزيران يونيو 1967، وإصرار على الاحتفاظ بشريط حول الحولة ومصادر المياه اضافة الى شريط أمني واسع يمتد لأكثر من 45 ميلاً! من دون ان يعلن ولو لمرة واحدة انه مستعد لتلبية طلب سورية استئناف المفاوضات من النقطة التي توقفت عندها عام 1996، مع انه، وهو شخصياً عندما كان رئيساً للأركان، شارك شخصياً في المفاوضات ووضع بنفسه الصيغة التي كشف النقاب عنها والتي يقال انها بحوزة الولاياتالمتحدة كوثيقة تثبت اعتراف اسرائيل بالانسحاب الى حدود الرابع من حزيران ضمن ترتيبات أمنية معينة. وموطن الخطورة في هذه المواقف ان باراك المدعوم من الولاياتالمتحدة وادارة كلينتون بالذات التي انتقمت به من نتانياهو، و"الملمع" عالمياً سيقدم نفسه داعية "سلام" وبالتحديد هو "سلام ملغوم". فإذا قبل العرب طروحاته انفجرت بهم عند مواجهة الحقيقة، وإذا رفضوها يظهرون كأعداء للسلام وتنقلب الآية وتتغير الصورة التي عكسها نتانياهو بنجاح منقطع النظير. والخوف، كل الخوف ان تسهم هذه التطورات في اعادة شق الصف العربي بين مؤيد للتعامل مع الواقع، ومعارض له وسط مداخلات وضغوط اميركية ظاهرة من دون ان ننسى ان اميركا مقبلة على انتخابات رئاسية العام المقبل وان الحزب الديموقراطي الحاكم سيسعى للمزايدة على الحزب الجمهوري الذي فاقه نفاقاً ودعماً لاسرائيل وللوبي الصهيوني مما سيدفع نائب الرئيس الى التطرف في دعم اسرائيل خلال حملته لترشيح نفسه للرئاسة، وهو محسوب عليها اصلاً. وقد ظهرت بدايات هذا التطرف في خطابه الاخير، امام جماعات الضغط اليهودية، الذي عارض فيه قيام الدولة الفلسطينية واتخذ مواقف اشد تطرفاً من مواقف أية حكومة اسرائيلية. كل هذه العوامل تدعو الى دق ناقوس الخطر والمطالبة بنهوض عربي شامل من القمة الى القاعدة وتحرك "الحكماء العرب" لتصفية الاجواء ورأب الصدع والتمهيد لقمة عربية لمواجهة التحديات واتخاذ مبادرات فاعلة تحدد أسس الاستراتيجية العربية للقرن المقبل. وقد يقول قائل ان "عقد قمة في هذه المرحلة متعذر لأسباب كثيرة، وان القمة الخماسية المرتقبة مصر وسورية والأردن ولبنان والسلطة الفلسطينية يمكن ان تؤسس لموقف عربي موحد عند استئناف مفاوضات السلام خلال الاشهر القليلة المقبلة، ولكن هذا لا يمنع من التمهيد لمصارحة عربية تتبعها مصالحة. فالقمة المطلوبة ليست من أجل التعامل مع باراك فحسب بل من اجل المستقبل ومتطلبات القرن ال 21 والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، والمتغيرات الدولية بعد عملية كوسوفو حيث يسود الاعتقاد بأن حلف الاطلسي صار بديلاً للأمم المتحدة وان دفاعه عن المسلمين الألبان في كوسوفو لم يكن لأسباب ودوافع انسانية بحتة بل من اجل اعادة رسم خارطة جديدة للعالم... والعالم العربي ليس بعيداً عنها. لقد نجحت القمة العربية عام 1996 في وقف نزيف الدم والمواقف وحدت من حركة التطبيع مع اسرائيل وأنهت سياسة "الهرولة"... والقمة المطلوبة بإلحاح لا بد ان تدعم هذا الاتجاه حتى لا ينفرط العقد وينساق بعض الاطراف وراء اغراءات باراك وسياسة الحكومة الجديدة التي ستمضي في تنفيذ الثوابت الاستراتيجية لاسرائيل. ولا يعني هذا ان المطلوب اتخاذ مواقف سلبية بل العكس هو الصحيح لأن السلبية لا تفيد، والسياسة المثلى هي مجابهة المكر بالمكر والمناورة بالمناورة. فمواجهة التحديات المقبلة يمكن ان تنطلق من اتجاهين رئيسيين هما رأب الصدع وإزالة الخلافات وتوحيد الصف ودعم الموقف التفاوضي السوري واللبناني والفلسطيني والاصرار على استعادة الحقوق والأراضي، وتجديد التمسك بالسلام العادل والشامل والمطالبة بالعودة الى جوهر المبادرة الاميركية ومرجعية مدريد ومبدأ الأرض مقابل السلام وتنفيذ القرارات الدولية، وربما يمكن ان تسفر القمة المطلوبة عن اعلان مبادرة عربية شاملة لتسريع مسيرة السلام ووضع حكومة باراك، والادارة الاميركية امام واقع جديد لا مفر من التعامل معه بعد ابداء "حسن النوايا" كما دعا الرئيس المصري حسني مبارك. ويمكن ان يقوم وفد من القمة على مستوى عال من الزعماء العرب بجولة على الولاياتالمتحدة وأوروبا ودول العالم لابلاغ مضمون هذه المبادرة وشرح وجهة النظر العربية الموحدة وتأكيد تمسك العرب بالسلام العادل والشامل من موقع القوة والاقتدار ووحدة الموقف والامكانات. وأختتم مع عبارة أعجبتني للسياسي الجزائري العربي - الدولي المحنك الاخضر الابراهيمي عندما سئل في بيروت عن الموقف العربي قال فيها: "الموقف العربي يكون مقبولاً اذا سبقه عمل حقيقي واستعمال رشيد للامكانات واستنهاض موقف العرب... ولكن متى... الله أعلم"... وأنا بدوري أسأل متى سيتحرك العرب بإيجابية وجدية.. ومتى سيتم الاستخدام الرشيد للامكانات، خاصة، وأننا نمر في مثل هذه الظروف الخطيرة والمتغيرات العالمية الكبرى؟ متى... وكيف؟ الله اعلم! * كاتب وصحافي عربي