حسمت نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة مرحلة سياسية بكاملها وبكل ما فيها من صلف وعنجهية، هما التكثيف السياسي لرغبة زعيم الحكومة اليمينية بنيامين نتانياهو في إرغام الفلسطينيين على التسليم بالأمر الواقع الإسرائىلي في كافة المجالات، بدءاً من الاستيطان وصولاً إلى دحر فكرة الاستقلال، وتحويلها إلى مجرد عبث لفظي يتحرك في دائرة واقعية ضيقة، مما يمكن ان تجود به وتسمح بوجوده عقلية تؤمن أن السلام ليس سوى استكمال إسرائيلي لما حققته حرب حزيران يونيو 1967 بجنازير الدبابات. والإقرار بانتهاء هذه المرحلة لا يعني بالضرورة ولادة نقيض حكومي إسرائيلي يرحب بالسلام الكامل وينبذ الاستيطان ويقر بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة على كامل الضفة الغربية وقطاع غزة ومعهما القدس العربية، بل الصحيح والواقعي ان صعود ايهود باراك إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية الجديدة سيعيد الأمور إلى نصابها القديم الذي عرفناه خلال مرحلة رابين - بيريز. والذي كانت سمته الأساس صراع الإرادات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي في إطار الخطوط العامة التي حددها اتفاق أوسلو الذي وقعته حكومة عمل وجاءت حكومة نتانياهو من أجل تجميد تطبيقه، والعودة بالمناقشات التسووية إلى دوائرها المغلقة. ومع ان ايهود باراك قد أعلن فور انتخابه رئيساً للحكومة لاءاته التي صارت معروفة، إلا أن قبوله الضمني - وبالطبع قبول حزبه وكتلته - بوجود دولة فلسطينية مستقلة، بل وحتمية السيرورة نحو هذه الدولة، هو مسألة ايجابية، تضع الأمور من جديد في سياق آخر هو الصراع على شكل ومحتوى الاستقلال الفلسطيني ودرجة السيادة فيه وحجم الأراضي التي يمكن أن تنشأ عليها هذه الدولة، فزعيم حزب العمل وكتلة "إسرائيل واحدة" الذي أصبح رئيساً للحكومة الإسرائيلية يدرك استحالة الوقوف الصلف في وجه إرادة فلسطينية تدعمها إرادة دولية كاسحة في إقرار وتطبيق مبدأ تقرير المصير للفلسطينيين، ولكنه بلاءاته الأربع سيحاول في المرحلة المقبلة ربط هذا الاستقلال بالحدود والمساحة التي يمكن أن تتنازل عنها إسرائيل، أي أنه بكلام اخر سيحاول تمرير هذا الاستحقاق الفلسطيني - المدعوم بالتأييد العالمي - بأقل قدر من الخسائر وبما يوصل في النهاية إلى حل نهائي يضمن السلام لإسرائيل، ويفتح أبواب الاعتراف والتطبيع السياسي والاقتصادي العربي الكامل معها، بما في ذلك انتقال رؤوس الأموال والأيدي العاملة والخبرات الصناعية. هذه السمات للمرحلة السياسية المقبلة تدفعنا إلى الاعتقاد ان الساحة الفلسطينية مقبلة على استحقاق مصيري يتوقف على انجازه مصير الأجيال الفلسطينية لعقود طويلة مقبلة، ما يعني بالضرورة انتهاج سياسة ديبلوماسية ووطنية أهم ما فيها الإرادة الموحدة، والذهاب إلى هدف الاستقلال بوضوح أعلى ودون تردد. لم يعد من الجائز مثلاً مواصلة الاصغاء لبواعث التأجيل في إعلان قيام الدولة الفلسطينية وسيادتها على أرضها، بل ان المطلوب أن يتم هذا الإعلان من خارج المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية، وهذه في تقديرنا ليست مسألة شكلية، إذ أن انتظار ان تتمخض المفاوضات عن إقرار إسرائيلي بهذه الدولة يعني في ظل موازين القوى الراهنة وفي ظل لاءات حكومة باراك الارتهان إلى سياسة لن تؤدي إلا إلى قيام معازل فلسطينية تشبه معازل السود في اتحاد جنوب افريقيا، وتظل مرتبطة بوجودها ومصيرها بإرادة الطرف الإسرائيلي. صحيح ان التسوية هي في النهاية اتفاق طرفين فلسطيني - إسرائيلي، ولكن الصحيح أيضاً أن على الطرف الفلسطيني أن يمارس من جانبه سياسة واقعية يجب أن تقوم على استثمار أقصى للتأييد الدولي الكاسح لفكرة الاستقلال وقيام الدولة المستقلة بكل ما في هذه الخطوة من مغامرة محسوبة، لعل أبرزها عدم اعتراف إسرائيل - والولايات المتحدة - بها، وهو أمر سيضع الأمور في سياق اخر ملامحه هي وجود دولة فلسطينية تحظى بالاعتراف العالمي، ولكنها تعاني من وجود أرضها تحت سلطة الاحتلال، فالاعتراف الدولي بالدولة الفسلطينية يعني بصورة حاسمة إلغاء فكرة ان الأراضي "مختلف عليها" وسيعيدها - ولو نظرياً وسياسياً - إلى كونها أراض محتلة يتوجب ان تعود إلى سيادة الدولة الفلسطينية. هذه مسألة على جانب كبير من الأهمية، والقيام بها ودون تردد سيضع الطرف الفلسطيني في موقع الهجوم السياسي وينهي مرحلة الوقوف الطويل بانتظار أفعال الإسرائيليين واستنكارها، كما ان اعلان قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس مع بقاء أجزاء واسعة من أرضها تحت الاحتلال سيعيد التحام الساحة الفلسطينية بكل قوى فصائلها وأحزابها ومنظماتها، ويوحدها من جديد في الوقوف من أجل تحرير الأرض وإلحاقها بالسيادة الوطنية الفلسطينية. إن هذه المهمة هي في المرحلة المقبلة أكثر من مجرد اقتراح نظري يمكن ان تتناوله الصحف ووسائل الاعلام، بل برنامج عمل وعقلية مفاوضات، لا تركن إلى الوقوف والانصات لما يريده الطرف الإسرائيلي فقط، كما جرى طيلة الفترات السابقة وبالذات منذ صعود بنيامين نتانياهو إلى رئاسة الحكومة. وأهم ما يعنيه فوز باراك ليس استعداده للتسليم بالشروط الحقيقية للسلام - فهو يضع لها العراقيل بلاءاته - بل هو انفتاح الصراع من جديد، وهو صراع إرادات لا يفتقر الطرف الفلسطيني فيه إلى وجود أوراق تحقق له أهدافه الوطنية. نقول ذلك ونحن ندرك حجم الأخطار المحدقة، بل بسبب من ادراك هذه الأخطار التي تفرض أداء سياسياً مختلفاً نرى سمته الأبرز في إعادة التحالف الوطني الفلسطيني إلى لحمة قوية وأكثر تماسكاً، لأن ذلك وحده هو الكفيل بوضع شروط الحد الأدنى لتسوية سليمة لا تزال تراوح في الشروط الإسرائيلية. * شاعر وكاتب فلسطيني.