بعد تكرار التأكيد على نية السلطة الفلسطينية في اعلان دولة فلسطين، او بسطها او تجسيدها على ارض فلسطين، وفقاً للصيغ والمفردات التي استخدمتها السلطة، وقبلها وبعدها العديد من القوى والشخصيات الفلسطينية، نظمت ورشة عمل في قاعة رشاد الشوا في غزة هي اقرب الى الحوار او العصف الفكري الذي يأخذ طابع التفكير المتبادل بصوت مسموع. وشارك في هذه الورشة ممثلون عن كل من السلطة الفلسطينية والقوى الوطنية والاسلامية وعدد من الشخصيات الوطنية، وبعض المثقفين والاكاديميين ومن ذوي الاختصاص بالقانون الدولي واحكامه وبحضور ممثلي الدول العربية لدى السلطة الفلسطينية. طرحت في تلك الورشة اكثر من ورقة تؤكد توفر عناصر وقواعد الاعراف والقوانين الدولية التي تشرع وجود هذه الدولة، وفقاً لسلسلة من القرارات التي اصدرتها الهيئات والمنظمات الدولية بما في ذلك الجمعية العامة للامم المتحدة ومجلس الامن الدولي بدءاً من القرار 181 الذي ينص على دولتين في فلسطين، مرورا بقرار قبول اسرائيل عضواً في الجمعية العامة واشتراط هذه العضوية باعتراف اسرائيل بحق الفلسطينيين في دولتهم وحقهم في العودة او التعويض لمن لا يريد العودة، وفق منطوق القرار 194 وانتهاء بقرارات مأخوذه تكرارا حول حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة وغير القابلة للتصرف بما في ذلك حقه في تقرير مصيره من دون تدخل خارجي، وحقه في الاستقلال والسيادة الوطنيين. وكان واضحاً للجميع ان كل الدراسات القانونية التي قدمت، او التي يمكن ان تقدم لاحقاً ستفصح عن تأكيد ما هو مؤكد من حقوق للشعب الفلسطيني في الاستقلال والسيادة بما في ذلك حقه في اقامة دولته المستقلة على ارض فلسطين. لهذا ذهبت غالبية المشاركين في تلك الورشة الى ان المسألة لا تكمن في البحث عن سند قانوني لإقامة الدولة المستقلة، فهذا امر سهل وميسور استظهاره بسرعة، وقبل تأسيس دولة اسرائيل، وبعد تأسيسها، وحتى اليوم. لكن المسألة التي ينبغي ان تكون موضوعاً لتبادل الافكار والخروج باستنتاجات نافعة تتعلق بالارادة الفلسطينية والسياسية التي تعبر عنها، ثم ترتيب اوضاع البيت الفلسطيني بما يخدم هذه السياسة. ان الاعلان الفلسطيني هذا مفتوح على احتمالات عدة اوجز اهمها في ثلاثة: الاول: ان يكون هذا الاعلان المتكرر "والانشغال" بدولة في 4 ايار مايو ملهاة تفتعلها قيادة السلطة لمشاغلة الجميع في ظل قناعتها ان طريق اوسلو قد اصبح مغلقاً او هو كذلك مع وجود حكومة نتانياهو، ولم تعد قادرة على تمرير اوسلو او تسويقه للعديد من القطاعات الجماهيرية التي املت وانتظرت واعطت تأييدها للقيادة الرسمية الفلسطينية، ولهذا عملت قيادة السلطة على ملء مساحات من الفراغ في الزمان والمكان تنتظر تبدلات اقليمية ودولية ابرزها تغير في الحكومة الاسرائيلية يمكن الاطراف المعنية من اعادة تحريك العملية السياسية ومغادرة حال الجمود القائمة. الثاني: ان يكون هذا الاعلان بوابة وبداية لانحدارات نوعية ومصائب كبيرة تلحق بالشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، يمكن التأشير على بعضها بسيناريوهات متعددة تتاثرت هنا وهناك في وسائل الاعلام او بعض الاحاديث السياسية غير الرسمية استذكر منها: - تمديد الوقت لسريان اتفاقات اوسلو، بعد ان تكون قيادة السلطة "قد بذلت كل الجهود" لتوفير مقومات نجاح الدولة العتيدة فوجدت الظروف العربية والدولية غير مواتية، وربما تذرعت بنصائح البعض بعدم اعلان الدولة المستقلة وبالتالي فلم يعد امامها سوى تمديد فترة الاتفاقيات. - اعادة احياء الخيار الاردني بصيغ جديدة تتلاءم والشوط الذي قطعته اتفاقيات السلام على الجبهتين الفلسطينية والاردنية، خصوصاً وان قرارات المجالس الوطنية المتعاقبة كانت تؤكد على الكونفديرالية او الفديرالية بين دولتين مستقلتين، ويكون الاعلان الشكلاني عن الدولة الفلسطينية فاتحة لهذا الطريق اعتقادا من اصحاب هذا الخيار بأنه يمكن ان يشكل مخرجا ولو شكليا لأزمتهم، او تحقيقا لشراكة تحافظ وتستجيب لمصالح بدأت تتشكل وتتراكم للعديدين من اصحاب النفوذ في السلطة الفلسطينية على وجه الخصوص. - الاكتفاء بالاعلان عن الدولة وتجميد الاوضاع على ما هي عليه، بسكوت او تواطؤ اسرائيلي يرفض علناً ورسمياً هذا الاعلان، لكنه يقبل به واقعيا طالما انه لا يحقق سيادة على قدس او معابر او حدود ولا يعطي سيادة حقيقية على الارض والمياه والبحر والجو، وتعلن اسرائيل ان هذا الاجراء خرق فلسطيني للاتفاقات الموقعة وسلوك منفرد يغير من واقع الاراضي المتنازع عليها، وتقوم اسرائيل بدورها بضم الاراضي الفلسطينية التي تستهدف مصادرتها وضمها لاسرائيل. والاحتمال الثالث: ان يكون هذا الاعلان تهيئة واعداداً للجميع وبخاصة للشعب الفلسطيني ليكون يوم 4/5/1999 يوما فاصلا نعيد فيه وضع القطار الفلسطيني على سكة برنامج الاجماع الوطني، برنامج العودة والدولة المستقلة وحق تقرير المصير. ومهما تعددت وتنوعت الاجتهادات والمواقف من اتفاقات اوسلو نصوصاً ومنهجاً، فقد اجمع الطيف الفكري والسياسي الفلسطيني بما فيه سلطة الاتفاق ذاتها ان اتفاقات أوسلو لا تلبي الحد الادنى من حقوق واهداف الشعب الفلسطيني، وشكلت تراجعا عن قرارات الشرعية الدولية التي تؤكد على فلسطينية الارض المحتلة عام 67 على الاقل، فاخضعت هذه الاراضي للتفاوض وحولتها الى مناطق متنازع عليها مع استعداد ضمني ومعروف للجميع، الاصدقاء والاعداء على السواء، بأن السلطة مستعدة للتنازل عن اقسام من هذه الارض "والمفاصلة" بين السلطة والاحتلال هي على مواقع هذا الجزء ومساحته. وشكل هذا الاتفاق تراجعا عن الدولة الفلسطينية التي اعلنت في تشرين الثاني نوفمبر 1988 التي حازت على اعتراف ما يزيد عن مئة دولة من دول ما زالت سفارات فلسطين قائمة في العديد منها. واحدث هذا الاتفاق انقساما كبيرا في صفوف الشعب الفلسطيني، ويكاد يبدد دور ومكانة منظمة التحرير الفلسطينية الكيان المعنوي والسياسي الناظم والموحد لشعبنا في الوطن والشتات. لا اريد الاسترسال في النتائج السلبية الكبيرة والعميقة التي نتجت عن اتفاقيات اوسلو، ودون ان اغفل انحسار الاحتلال عن ما يقرب من 7 في المئة من اراضي الضفة والقطاع، وتأسيس السلطة الفلسطينية على هذه الارض باعتبارها حقائق نتجت الاتفاق، ولكنني اسارع للقول بأن التاريخ كان مفتوحاً على ما هو افضل بكثير من هذه النتائج لو دفعت القيادة الرسمية ل م. ت. ف بسياسة اخرى تقوم على استمرار الانتفاضة الباسلة ودعمها واستذكر ما كان يتم تداوله اسرائيلياً من احتمالات الانسحاب من قطاع غزة. المقام هنا ليس مقام مساجلة بين منهجين، وسياستين انتجتهما اتفاقيات اوسلو، اذ يمكن ان يشكل يوم 4/5/1999 فرصة تاريخية "لتجاوز هذا الانقسام" واعادة وصل ما انقطع بما يوحد الشعب من جديد، ويحشد ويفعل كل طاقاته وبما يؤسس لنهوض وطني يعيد للقضية الفلسطينية وهجها ومكانتها كقضية قومية لكل العرب، وتعود مطالبتنا للدعم والاسناد والتأييد الدولي، على اساس من قرارات الشرعية الدولية التي تؤكد على حقنا في العودة والاستقلال والسيادة الوطنية وعلى حقنا في كل وسائل الكفاح لتحقيق ذلك. هذه الفرصة التاريخية يمكن ان تتحقق اذا قامت السلطة الفلسطينية عشية 4 ايار المقبل بالاعلان الصريح عن قيام الدولة الفلسطينية على ارض فلسطين، وان الاراضي الفلسطينيةالمحتلة هي اراضي الدولة الفلسطينية، لا تزال تحت الاحتلال الاسرائيلي، وان النضال سيستمر بكل الطرق والوسائل لتحريرها، مع التأكيد على النضال من اجل تحقيق السيادة الكاملة للدولة العتيدة على ارضها وحدودها معابرها ومياهها واجوائها وفقاً للقوانين الدولية التي تنظم كل ذلك، والتأكيد على حق اللاجئين والنازحين الفلسطينيين بالعودة الى ديارهم وفقاً لقرارات الشرعية الدولية والقرار 194 الصادر في 11/12/1948. ان هذا الخيار يشكل "انقلابا ثورياً" على الواقع والمسار السياسي الراهن، يتطلب ان تتوفر له اعلى مقومات ممكنة للصمود والقدرة على انجاحه ومتابعة السير على الطريق الذي يشقه. واولى مقومات النجاح، بل الحلقة المركزية والحلقة الاساس هي الحلقة الفلسطينية توحيد البيت الفلسطيني، وترتيب وتقوية دعائمه وتعزيز صموده، فالشعب الفلسطيني يصل الى حوالى تسعة ملايين انسان اكثر من نصفهم في الشتات، ويملك هذا الشعب امكانات وطاقات كبيرة اذا تم حشدها في مواجهة الاحتلال تستطيع ان تحدث تغييراً جدياً في معادلة ومجرى الصراع مع الغزوة الصهيونية والاحتلال الاسرائيلي الجاثم على ارضنا، ويمكن ان تطلق ارادة وابداع هذا الشعب لتتجاوز العديد من العقبات والاشكالات القائمة الآن والتي تبدو غير مواتيه للنهوض ومجافية له، ولعل استذكارنا للانطلاقة المتجددة للثورة الفلسطينية اثر هزيمة حزيران 1967، ورغم اليأس الذي كاد ان يحطم العرب كلهم، واستذكارنا ايضاً لانطلاقة الانتفاضة بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان وتشتيت قوى الثورة الفلسطينية. على هذه القاعدة نعمل من اجل اعادة التضامن العربي مع الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، وعليها ايضا نحشد التأييد والاسناد العالمي ونفعل ممثليات منظمة التحرير الفلسطينية وسفارات باعتبارها سفارات دولة فلسطين على ارض فلسطين، ونفتح الباب لتفاعلات دولية جديدة قطع الطريق عليها هذا التفرد الاميركي بانحيازه الثابت لاسرائيل. يجتهد كثيرون في محاولة التعرف على ردود الفعل الاسرائيلية على خطوة كهذه ويوردون العديد من الاحتمالات ابرزها: 1- ان تقوم اسرائيل باجتياح مناطق السلطة الفلسطينية واعادة احتلالها من جديد. 2- ان تغلق اسرائيل الحدود والمعابر كلها وتفرض حصاراً محكماً على الفلسطينيين في الضفة والقطاع. 3- ان تعلن اسرائيل ضمها لباقي الاراضي الفلسطينية التي تقع خارج مناطق سيطرة السلطة الفلسطينية. 4- ان تكتفي اسرائيل بإدانه هذه الخطوة، واعتبارها قراراً منفرداً يخرج عن الاتفاقيات الموقعة معها، وترفض التعامل مع هذه الخطوة ونتائجها وتحتفظ بحقها في الرد المناسب عليها. كل هذه الاحتمالات واردة، والتدقيق فيها يظهر ان حالة الجمود والعجز التي تظهر فيها القيادة الفلسطينية، مع استمرار مصادرة الارض الفلسطينية وتوسيع واقامة المستوطنات والطرق الالتفافية عليها مع تنكر اسرائيل لاي شكل من اشكال السيادة الفلسطينية، هي اخطر من كل هذه الاحتمالات. فإقدام اسرائيل على اعادة احتلال الضفة والقطاع يعني الاشتباك المسلح بين شعبنا وقوات الاحتلال على نطاق واسع وشامل لم يشهده هذا الصراع من قبل. اما الحصار الشامل فقد جربه شعبنا مرات ومرات، وينبغي ان نعد العدة له بتوفير كل ما يساعدنا على الصمود والقدرة على تحريك اوسع اوساط الرأي العام العالمي لمجابهته. والضم الاسرائيلي لاراض فلسطينية جديدة لا يغير نوعياً من طبيعة الصراع، ولا حتى من السياسات الاسرائيلية القائمة الآن. وعلى اية حال فمثل هذه الاحتمالات وسبل مواجهتها يمكن ان تكون موضع بحث فلسطيني واسع تشارك فيه العقول والكفاءات والقوى الفلسطينية بتنوع رؤاها ومنطلقاتها. ان السلطة الفلسطينية لا تمارس وفق ما يوحي بأنها جادة في توفير النجاح لخطوة اعلان الدولة الفلسطينية على ارض فلسطين، الامر الذي يطرح علامة سؤال كبيرة على جديتها في هذا الاعلان. وقبل استحقاق 4/5/1999 لا تمارس السلطة ما يوحي بأنها جادة في توفير هذه المقومات، على عكس ذلك ظهر العديد من المؤشرات التي تؤشر على تراجع السلطة عن اعلان هذه الدولة، بكل ما يعنيه ذلك من اضرار بهدف رئيسي من اهداف النضال الفلسطيني المعاصر، ويحوله الى سلاح تكتيكي يمكن ان يشهر او يعاد طيه وفقاً لمقتضيات التكتيك الآني والحسابات القصيرة النظر. * عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية - غزة.