اذ تحاسب البشرية نفسها في انتهاء هذا القرن تجد سجلاً مضمخاً بالدماء، ربما أكبر من أي قرن، ولا من مؤشر على ان المستقبل يبشر بما هو أفضل. ذلك أننا نطالع الأخبار يومياً ونجد فيها تراكماً لأنباء من شتى أرجاء العالم عن أعمال القتل الجماعي او القتل "على الهوية" كما كان يقال أيام الحرب الأهلية في لبنان. هناك المجازر المبعثرة، ذات الكم المروع، في الجزائر، ومن قبلها مذابح رواندا التي قتل فيها أكثر من نصف مليون شخص، والحرب الأهلية في يوغوسلافيا السابقة، وها هي اندونيسيا تنضم الى القافلة، وغير ذلك حروب أهلية صغيرة في أماكن متناثرة، كل ذلك في أذيال قرن شهد حرب المذابح بين الهند وباكستان، ومذابح الأرمن، وكمبوديا، والحربين العالميتين بما في ذلك مذابح النازية. ونحو عشرين مليون نسمة قضوا في محاولات ستالين خلق نموذج دولة حديثة، وحروب متفرقة أخرى لها أول وليس لها آخر. ظاهرة العنف الجماعي المنظم هذه تستحق تأملاً ودراسة حتى لا تتكرر، فكل أمة مرشحة لها اذا لم تبادر بمواجهة هذا الاحتمال والحديث صراحة في أنماط التوتر الكامن فيها وما يمكن التعبير عنه من مظاهر هذا التوتر وما يتجاوز حدود المقبول ولا يمكن التهاون فيه. ونخص بالحديث هنا ذلك النمط من العنف ضد جماعة، أو جماعات، من دون تمييز بين الأفراد، وتصنيفهم جميعاً في خانة العدو لمجرد انتمائهم بحكم المولد، عادة الى تلك الجماعة. هذا العنف يتخذ في أسوأ أشكاله صفة القتل، وبصورة دموية ان أمكن، والتبجح بالقتل والتنكيل بالجثث، لكنه يمتد كذلك الى الطرد الجماعي، أي حرمان الجماعة الضحية من الانتماء الى وطن مشترك. والعلانية من أبرز سمات هذا النمط من العنف، فالقصد منه ليس فقط إلحاق الأذى بالجماعة الخصم، بل التبجح والشماتة والتشفي، واذلال واخافة من بقي حياً، وهو ما يضفي على أعمال العنف هذه صفتها المروعة. لكنها ليست أعمال قتل رمزية أو متفرقة، بل تهدف بحد ذاتها الى ابادة الخصم جسدياً بالقتل او الترحيل أو كليهما. وهي أعمال عنف ترى الخصم جماعة وليس أفراداً، وجريرتهم هي وجودهم وليس عملاً أو أعمالاً معينة اقترفوها أو اتهموا بها. هذا العنف لا يظهر فجأة، وان كان كثيرون يودون التظاهر بذلك متى راعهم ما يقوم به أبناء جلدتهم. ولا هو مسؤولية فئة صغيرة متطرفة، حتى ولو أصر على ذلك جل مجتمع القتلة، فأعمال العنف هذه لا تنشأ الا في بيئة سوغتها ومنحتها فرصة وتبريراً. وقد يقول قائل ان المذابح ليست جديدة على البشرية بل هي ظاهرة رافقت حروباً كثيرة في الماضي، وكل ما في الأمر ان وسائل الاعلام في العصر الحديث قادرة على اطلاعنا على ما يدور في انأى بقعة في العالم. وفي هذا القول قدر من الصحة، فالعنف أكثر ظهوراً في عالمنا الحديث لأننا نملك القدرة على الاطلاع عليه اكثر من أي زمن عابر، وطالما ان العنف بكل أنواعه، السياسي والاجرامي، يثير الفضول، تظل وسائل الاعلام تنقل أخباره اكثر من قضايا اخرى مثل تحسين وسائل الري او صنع الأحذية. وهناك قدر من الصحة كذلك في مقولة ان ضخامة أعمال العنف وارتفاع عدد الضحايا لا يعني تصاعداً في تلك الظاهرة، بل هو نتيجة طبيعية لارتفاع عدد السكان، فعندما كان عدد سكان العالم كله نحو نصف بليون كما كان قبل أكثر من مئة عام، من المنطقي ان يكون عدد ضحايا العنف أقل بكثير مما هو الأمر عليه في عالم يربو عدد سكانه على خمسة بلايين. هذا المنطق صحيح من الناحية الرقمية، لكنه يقود بدوره الى الكشف عن عنصر آخر يسهم في تصاعد ظاهرة العنف الجماعي، اذ لا شك لدينا ان هذه الظاهرة في تصاعد بنسبة تزيد كثيراً على نسبة زيادة عدد سكان العالم. ان النمو السكاني بذاته يسهم في نمو العنف الجماعي، نتيجة زيادة الضغط على الموارد الطبيعية وما يولده ذلك من خوف وقلق كل فئة على مستوى معيشتها ومصادر رزقها. وليس هذا الا واحد من آثار الحداثة وتوابعها، فالحداثة بدون شك رفعت مستوى المعيشة في كل مكان في العالم مقارنة بما كان عليه الحال قبل خمسين عاماً مثلا أو مئة أو مئتين، لكنها خلقت تطلعات وطموحات وتوقعات أعظم بكثير في كل جيل مما عرفه الجيل السابق. ومن أهم أسباب ذلك أيضا وسائل الاعلام، خصوصاً التلفزيون، التي تطلع شباب أصغر قرية في الصعيد على ما يتوافر لأقرانهم من سلع وترفيه وفرص الاستمتاع بالحياة في ضاحية اميركية. ولم يعد كل جيل يقيس انجازاته مقارنة بالجيل السابق في بلده، بل بالجيل المماثل له في الدول المجاورة والبعيدة، وسلاحه في ذلك وسائل الاعلام وهي طبعاً ليست مصدراً موثوقاً لمعرفة المجتمعات الغريبة، لكن هذا حديث آخر. وتلعب وسائل الاعلام الحديثة دوراً آخر في تسهيل العنف الجماعي، لأنها نقلت صوره ونماذجه من أرجاء العالم، وهي بذلك انما تؤدي عملها، لكنها جعلت هذا النمط من العنف أكثر استساغة وألفة. وما كان يقشعر له البدن صار صورة مألوفة، سرعان ما تصبح مملة، وما كان فظاعة أصبح روتيناً تشاهد اصوره لحية وأنت على مائدة الطعام. وحدث ولا حرج طبعاً عن صور العنف المفتعل في ما يسمى وسائل الترفيه، أي السينما والتلفزيون. واذن تخلق وسائل الاعلام عالماً تجد فيه كل جماعة نفسها محاصرة في وجه تضاؤل مصادر العيش والاحساس بالغبن وبأن هناك، في كل رقعة في العالم، من هم أحسن حالاً وأوفر فرصاً، كما تجد ان القتل سهل وبسيط وروتيني، ووسائله متوافرة. ومما جلبته الحداثة صناعة الأسلحة الحديثة وتجارتها، والتي تجعل من الممكن قتل آلاف بالرشاشات والمسدسات بسرعة لم تكن ممكنة من قبل ومن دون جهد كبير. لكننا نلاحظ هنا ان نسبة عالية من أعمال العنف الجماعي، كما في الجزائرواندونيسياوالهند وباكستان، يفضل القتلة فيها استخدام السكاكين والآلات الحادة. ونجد في هذا الميل الذي يكاد يكون رفضاً للحداثة وما جلبته من توتر ومطالب وتغييرات تعبيراً عن رغبة في القتل عن كثب، وفي القتل الدموي فعلاً لا رمزاً. هذه أعمال قتل تهدف الى التعبير عن غيظ وغضب وحقد على الضحية، ورغبة في التشفي، أكثر بكثير مما تهدف الى انهاء وجود الضحية بأسرع الوسائل وأكثرها فعالية. لذلك لا بد من التدقيق في ما هو أبعد من دور وسائل الاعلام والحداثة. هناك عوامل أخرى، خاصة بكل مجتمع، تسهل على أبنائه اختيار هذا النمط من العنف الجماعي. وهي هذه العوامل ما يستحق التوقف عنده ونقده ونقاشه. وربما كانت هذه العوامل اوسع أثراً وأكثر انتشاراً مستفيدة من وسائل الاعلام والحداثة، ونقصد هنا تحديداً الجماعات السياسية والعقائدية ذات الأيديولوجية التي تسهل هذا النوع من العنف، ان لم تكن تدعو اليه صراحة. والأرجح ان معظم هذه الجماعات قد لا ينادي علناً بالمجازر، ولو سئل القائمون عليها لأنكروا دورهم وسارعوا الى ادانة العنف وربما كان بعضهم صادقاً في ادعائه. لكن المسؤولية تظل على عاتقهم، وعلى عاتق المجتمع بأسره الذي يتحمل، وأحياناً يشجع، جماعات تروج للحقد والعداء لفئات عرقية أو دينية أو قبلية أو قومية، وترى تمايزاً بين المواطنين فتلقي التهم جزافاً وبعمومية تشمل كل أبناء طائفة ما أو تدعو الى معاملة فئة ما من البشر استناداً بالدرجة الأولى الى انتمائهم الى فئة أو طائفة دون غيرها. ويتملص، كما أسلفنا، كثير من دعاة الحقد هؤلاء من مسؤوليتهم، ويتغاضى المجتمع بدوره عن هذه الميول، اما بتبريرها على أساس ان هناك "بعض الحق، في ما يقوله دعاة الحقد، أو انهم يمثلون طرفاً مغبوناً اليوم أو في الماضي القريب، وكأنما هذا الكلام لو صح كان عذراً لمحاولة ايذاء الغير. والأصح ان ينهض المجتمع الى ادراك ان التفرقة بين ولاء المواطنين او جدواهم، او فضيلتهم، أو صفتهم النسانية أو القانونية، على أساس الانتماء الى جماعة دون أخرى، هو الخطوة الأولى لتبرير سياسة قائمة على هذا التمايز، وهنا يصبح العنف ليس الا امتداداً طبيعياً لهذا المنطق في لحظة الأزمة، خاصة في مجتمعات لا تزال تمجد العنف وسيلة لانتزاع الحقوق أو اثبات الرجولة. وقد ينكر كل عربي ان يكون هناك في جواره أو مدينته أو بلده من هو قادر على هذا النمط من العنف كما شهدت رواندا او تشهد اندونيسيا اليوم. وقد يركز كل مراقب ومعلق وهو يتابع أخبار يوغوسلافيا على أن العرب، ان شهدوا هذا النوع من الكارثة، كانوا فيها الضحية لا الجلاد والحديث هنا عن الفلسطينيين، لكن كم من يوغوسلافي كان مستعداً للاقرار، قبل عشر سنوات، ان مجتمعه يمكن ان ينهار الى هذا الحد؟ ليس هناك من مجتمع يأمن هذا النمط من العنف ان لم يسارع الى تبين أسبابه والنظر بشجاعة في ما تضم صفوفه من احتمالات انفجار. وهناك أسباب أخرى كثيرة لهذا العنف مما يضيق به المجال هنا، ومما تظهر أعراضه لدينا لو صدقنا القول. هناك الميل الى تفخيم العنف وربطه بالرجولة. وهناك الغضب المتراكم في صدور سكان المدن نتيجة الاكتظاظ وغياب الخدمات الأساسية. ولمن يخال أننا نبالغ ان يجول في أي مدينة عربية تضيق بسكانها ويراقب سلوك سائقي السيارات، بل حتى المشاة. رأينا علامات ذلك في الجزائر، وبدأت علائم تحول مماثل تظهر في فلسطين من الناصرة الى غزة. وهناك، كما في يوغوسلافيا واندونيسيا، حكم تسلطي امتد عقوداً، فرض فيها على الناس التظاهر بأن التعددية غير موجودة أصلاً وان ليس من هوية سوى عقيدة الدولة، وبدأت كل جماعة تصفي حساباتها وتتقاتل على فتات ما بقي من الدولة. ليس هناك من مخرج لمجتمع يحمل في ثناياه هذه التراكمات الا ان يبدأ، قبل فوات الأوان، التعبير عن وجهات النظر من دون ارهاب وتخويف وتخوين، ولا يعني هذا كتم أصوات دعاة العنف بل السماح بالحديث الحر من مناوئي هذه الدعوات كما من مؤيديها، والاقرار بوجود فئات ذات مصالح ومشارب منوعة لا تنصهر كلها في بوتقة واحدة، على ان تقف الدولة حارساً أميناً لحق كل المواطنين في الحديث، وفي العيش بسلام وبكرامة. * كاتبة فلسطينية.