منذ حلول «الربيع العربي»، وكلمة «ارهاب» بقيت الكلمة الأكثر تداولاً على ألسنة الحكام وزعماء المعارضة. ومع أن العنف الدموي صبغ أرصفة الشوارع وغرف السجون في كل دولة تقريباً، إلا أن الساحة السورية ظلت تمثل المختبر الأكثر مهارة في فنون المجابهة. وكما عانت بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية من الصواريخ الالمانية الموجهة التي كانت تنفجر بشكل عشوائي فوق شوارع لندن (في-2)... كذلك يعاني سكان حلب وداريا وحماه وحمص من انفجارات البراميل التي يرميها عليهم الطيران الحربي. وللتدليل على فظاعة الارتكابات التي اقترفها النظام في دمشق - إضافة الى الكيماوي -، قررت المعارضة السورية استغلال الصور المنفرة التي نشرتها صحيفة «الغارديان» البريطانية وشبكة «سي أن أن» الاميركية. وفي التفاصيل أن مصوراً في الشرطة العسكرية السورية (اسمه المشفَّر قيصر) انشق لاحقاً، بعدما نجح في التقاط آلاف الصور المرعبة لمساجين كانوا قيد الاعتقال. وقد استندت شركة محاماة معروفة في لندن إلى تلك الصور لإثبات صحتها، واعتمادها وثيقة حقيقية لإدانة النظام السوري بالارهاب. وحصل أمين عام الائتلاف الوطني، بدر جاموس، على هذه الوثائق المصورة، ووعد بنقلها الى المحكمة الجنائية الدولية. وكانت مفوضة الأممالمتحدة السامية لحقوق الانسان، نافي بيلاي، قد أعلنت عن حصولها على أدلة دامغة تشير الى مسؤولية رئيس النظام في جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية في سورية. ويبدو أن الناشطة والمعلقة في قناة «سي أن أن»، كريستينا أمانبور، قد أجرت حديثاً مع رئيس وزراء روسيا ديمتري ميدفيديف، وسألته عن سبب احتضان رئيس يقتل شعبه. وأجابها بأنه قبل إصدار أحكام متسرعة يجب أن نتأكد من حقيقة هذه الصور، ونعرف ما إذا كانت مزيفة أم لا. وفي الأخبار المتناقلة حول هذا الموضوع، فإن ظهور دولة قطر كمصدر مموِّل يقف وراء شركة المحاماة البريطانية، أعطى سورية الحجة بأن المصور «قيصر»، الذي اختفى في تركيا، كان أجيراً مكلفاً، وأن الصور التي التقطها لم تخدم الحقيقة. وفي مطلق الأحوال، فإن الدوافع الكامنة وراء سلاح «الارهاب» تتوخى دائماً سيطرة الضغينة والحقد. كما تتوخى التغيير باسم الطائفية والقَبَلية والعرقية والعقائدية. ووفق تعريف المؤرخين، فإن مصطلح «الارهاب» دخل المرة الأولى في الاستعمال عندما شكَّل الذروة القصوى في سلسلة أعمال إرهابية... أو عندما وردت الكلمة هذه للتعبير عن عمل فظيع قام به أحد الأشخاص. لذلك رأى المؤرخون في الرصاصة التي أطلقها المتمرد غافريلو برنسيب شرارة «الارهاب» التي أشعلت الحرب العالمية الأولى. ففي 28 حزيران (يونيو) 1914 كان ولي عهد النمسا فرانز فيردناند يقضي إجازة في ساراييفو عندما أطلق النار عليه شاب، يُدعى «برنسب»، فأرداه. وانتقاماً لحادثة الاغتيال، قامت النمسا بمهاجمة بلغراد، عاصمة صربيا، مساء 28 تموز (يوليو) 1914. واعتُبِر ذلك الهجوم إشارة الانطلاق لعدد من الدول الاوروبية التي غرق جنودها في أوحال الخنادق، مثل المانيا وروسيا وفرنسا وبريطانيا. وبعد إعلان هدنة طويلة عام 1918، عقد في أيار (مايو) 1919 مؤتمر فرساي الذي أعاد رسم الحدود وتنظيم العلاقات الدولية. في مرحلة تالية، ظهر الارهاب كسلاح استخدمه جوزيف ستالين لتصفية منافسيه على الزعامة داخل الحزب الشيوعي. وكان ذلك في الثلاثينات من القرن الماضي. وعن هذا الموضوع الخطير كتب روبرت كونكوست مؤلفاً شهيراً، تُرجم الى لغات عدة، وأعيد طبعه مرات عدة. وفي المقدمة، يشرح المؤلف أهمية الاعتبارات الثلاثة التي استند اليها في تقويمه فيقول: أولاً - سعة نطاق عمليات التصفية التي قام بها ستالين، إذ أبيدت الملايين، فضلاً عن أن كل مواطن بات يعيش تحت كابوس الخوف والرعب. ثانياً - ممارسة وسائل غير عادية عرفت بمحاكمات الاعتراف. وهي التي يتخللها قيام منتقدي الحاكم باتهام أنفسهم بالخيانة. ثالثاً - سرية عمليات التصفية، إذ ما عدا المحاكمات العلنية، لم يصدر شيء على الصعيد الرسمي يؤكد ما يتناقله الرأي العام من أسرار. خلال عهد نيكيتا خروتشيف ظهرت الحقائق على بشاعتها، وخصوصاً ما بين عامي 1961 و 1964 عندما برزت مجموعة كبرى من التفاصيل المخيفة. وقد ثبت وجود فترة اضطهاد جماعي فُقِدَت خلالها أرواح الملايين من المتهمين الأبرياء. بسبب ما عُرِفَ ب «الارهاب الكبير»، يمكن القول إن الحزب الشيوعي بعد 1939 كان مختلفاً تماماً عنه عام 1934، ذلك ان الحزب الستاليني الذي احتفظ نظرياً بالعقيدة القديمة، أصبح في خدمة رجل واحد، وطوع قراراته الشخصية. منذ اعتداء 11 ايلول (سبتمبر) 2001، الذي ضرب في عمق الولاياتالمتحدة، التصقت كلمة «ارهاب» بالحركات الأصولية الاسلامية، خصوصاً بعدما أعلن أسامة بن لادن مسؤوليته عن التخطيط لعملية حصدت ثلاثة آلاف نسمة، وأزالت البرجين وأحرقت جناحاً واسعاً في البنتاغون. في دفاع أنصار بن لادن عن جريمته، ادّعوا أن هدف العملية كان ردع الولاياتالمتحدة عن انحيازها الأعمى لإسرائيل، وتجاهل الفريق المُضطَهَد. وبين المدافعين عن هذا الرأي المستشار السابق للرئيس بيل كلينتون روبرت مالي. وقد كتب يقول: «يعتقد فريق من المثقفين الاميركيين بأن سياسة بلادهم مسؤولة عن تلك الجريمة. ذلك ان تدمير فلسطين، والموقف المنحاز لإسرائيل، وتأييد الأنظمة القمعية في الشرق الأوسط، كل هذا يوضح لماذا اختار الارهابيون هدفهم». ويُستَنتَج من هذا التحليل أن الولاياتالمتحدة هي ضحية سياستها. ولكن الانتقام من سياسة الادارة الاميركية لا يكون بقتل أناس أبرياء... ولا يكون بواسطة عناصر منحت لنفسها حق القتل باسم الوكالة عن العزة الإلهية. ذلك أن الاسلام الصحيح يؤمن بالحوار وتعددية الآراء وبإفساح المجال للاختلاف والتباين وتقبل فكرة حرية الآخر (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا). والمؤسف أن التعبئة العقائدية التي بثها أسامة بن لادن بين أنصاره كانت مستوحاة من حكم «طالبان» أفغانستان، وليس من أحكام الإسلام. وربما يكون الإسلام السياسي أقل مسؤولية وجرماً من مذاهب وطوائف وقبائل أخرى تلطت وراء معتقداتها لتنتقم بطرق وحشية غير معروفة. منذ عشرين سنة تقريباً أطلِقَ صاروخ على طائرة الرئيس الرواندي هابيا ريمانا. وتنادت قبيلة الرئيس - وهي من الهوتو - للانتقام من قبيلة «التوتسي». ويقول المؤرخون إن مجازر ربيع 1994 حصدت أكثر من مليون شخص يشكلون ثلاثة أرباع عدد التوتسيين. واعتُبِرَت تلك المجازر، التي استمرت ثلاثة اشهر، من أبشع مذابح الإبادة وأكثرها عنفاً ودموية في القارة السوداء. وبين المجازر الرهيبة، التي فشلت الأممالمتحدة في منع حدوثها، مجزرة «الخمير الحمر» في كمبوديا. فقد أمر الزعيم بول بوت بقتل كل مَنْ لا يشاركه في المعتقد الايديولوجي. وكانت الحصيلة المرعبة ما بين عامي 1975 و1979 جزّ رؤوس مليوني شخص. وقُدِّرَ ذلك العدد في حينه بأنه يشكل 25 في المئة من عدد السكان. وفي مدينة بنوم بنه متحف كامل من الجماجم الموضوعة على رفوف تتاح للسائح مشاهدتها كي يتعرف على همجية الانسان ضد أخيه الانسان! ويذهب الكثير من المؤرخين الى أن التطرف الديني يهدد التعايش السلمي في أماكن كثيرة من العالم، خصوصاً البلدان ذات التعددية الدينية مثل لبنان والعراق ويوغوسلافيا سابقاً. ولم تكن الحملة العسكرية التي قادتها الولاياتالمتحدة ودول حلف الأطلسي عام 1999 سوى محاولة أخيرة لمنع الرئيس ميلوشيفيتش من تدمير الغالبية الألبانية في كوسوفو. ومع هذا كله، فإن الهجمات العسكرية لم تمنع الرئيس من طرد نصف مليون ألباني من كوسوفو. عقب الهجوم الذي قامت به مجموعة بن لادن في نيويورك، أصدر بنيامين نتانياهو كتاباً عن الارهاب، حدد فيه الأسس التي تستند اليها نظرية مقاومة الارهابيين. وأعلن في الوقت ذاته عن إنشاء مركز خاص في واشنطن لتتبع هذا الموضوع المرشح للانتشار. واللافت أن هذا «الواعظ» الليكودي لم يتطرق في كتابه الى المجازر التي قامت بها اسرائيل للاستيلاء على فلسطين. علماً أنه هو شخصياً شارك في تلك المجازر مع والده وشقيقه. وقد توَّج نشاطه الارهابي بنسف 12 طائرة مدنية تابعة لشركة «ميدل ايست» في مطار بيروت في عهد الرئيس شارل حلو. وقد تولى البروفسور وليد الخالدي مهمة تأريخ الحقبة التي سبقت ولادة اسرائيل في الأممالمتحدة (1947) بواسطة كتاب عنوانه: «قبل شتاتهم». أو بالأحرى «قبل تشتيتهم». ويضم المجلد الضخم مجموعة صور نادرة تمثل عائلات فلسطينية، إضافة الى خرائط الملكيات والمزارع والقرى التي استولت عليها العصابات الاسرائيلية بالقوة. ومن أجل التذكير بحلقات الارهاب التي استُخدمت لمحو قرى فلسطينية رأت اسرائيل أنها مخالفة لجغرافية «اسرائيل الكبرى»، أصدرت المنظمة الفلسطينية لحقوق الانسان «الكتاب الأسود.» وهو يضم أسماء أهم المجازر الاسرائيلية في القرن العشرين. وقد تولى إعداده الأستاذ سليمان الشيخ، رئيس قسم الدراسات في المنظمة. وكتب المقدمة الوزير اللبناني السابق ميشال إده. بقي أن نذكر أن المملكة العربية السعودية تعاملت هذا الأسبوع مع جرم «الارهاب» بكثير من الشدة والوقاية، لأنها اعتبرته ظاهرة مخلّة بالنظام والاستقرار والأمن. لذلك أصدر الملك عبدالله بن عبدالعزيز أمراً ملكياً تتم بموجبه معاقبة كل مَنْ ينتمي أو يشارك في أعمال هذه الجماعات المتطرفة. على رغم وجود هذه الكوابح القانونية والوقائية، فإن ظاهرة الارهاب لا تزال تنتشر في مختلف المجتمعات، المتخلفة منها والمتقدمة. هناك موقف ضمني من الشذوذ لا نجده في الأنظمة الديكتاتورية فقط، بل أيضاً بين المعجبين بأنظمة قاسية مثل اندونيسيا في عهد سوهارتو... وزائير في عهد موبوتو... والفيليبين في عهد ماركوس... والارجنتين في عهد الجنرالات. ذلك أن هؤلاء الديكتاتوريين كانوا يعتقدون بأن الإكثار من القتل دليل لإقناع الرأي العام بجدية القضية وتبريرها. وفي رسالة كتبها انغلز الى صديقه كارل ماركس (4 ايلول - سبتمبر 1870) يقول له فيها: «يتألف الارهاب بالأكثر من أفعال وحشية يرتكبها أناس مذعورون بقصد تطمين أنفسهم». ويبدو حالياً أن هذا التعريف القديم لا ينطبق على إرهابيي هذا العصر، بدليل أن الأقلية المسيحية في نيجيريا لا تخيف جماعة «بوحرام» الاسلامية، ولا الأقلية المسلمة في جمهورية افريقيا الوسطى تخيف الجماعة المسيحية. وعلى رغم كل ذلك، فإن كراهية الآخر تمهد الطريق لارتكاب الكثير من الأعمال الارهابية داخل المجتمعَيْن! * كاتب وصحافي لبناني