يفترض الجواب عن السؤال: هل الديبلوماسية علم أم فن أن نجيب أولاً عن السؤال الذي يتفرع عنه: ما هي الديبلوماسية؟ طبعاً لا يمكن الاكتفاء بالتفسيرات اللغوية لكلمة "دبلوما" الاغريقية التي تذكرنا بالجواز أو الوثيقة المكونة من لوحتين معدنيتين تلصقان لبعضهما البعض وتخاطان معاً. كما لا يمكن أن يقنع المرء أيضاً بالتفسير العام جداً الذي يقدمه "القاموس السياسي" للعبارة، والذي يقول إن الديبلوماسية هي مجموع الوسائل والنشاطات التي تستخدمها دولة ما لإدارة سياستها الخارجية وتفسيرها. وكان في إمكان القدامى، خصوصاً أفلاطون وأرسطو، أن يهتدوا إلى جواب شافٍ عن هذا السؤال. وقد توصل دير فالير إلى تجميع القواعد التي تنظم العلاقات الخارجية لليونان القديمة في مجال إبرام المعاهدات وإعلان الحرب وإقرار السلم والتمثيل الديبلوماسي. ويمكننا أن نستوحي تعريفاً من تاريخنا من خلال ما أشار إليه الخليفة الأموي معاوية بن ابي سفيان حين قال "إذا ربطتني بالناس شعرة واحدة سأحافظ عليها، فإن هم أرخوها سحبتها إليّ وان هم سحبوهها أرخيتها لهم". أما الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو واضع كتاب "روح القوانين" الشهير، فالديبلوماسية عنده قادرة على خدمة حقوق الناس، أي أن "الأمم - كما يقول - تتعاون على تحقيق أفضل المآثر في زمن السلم وأقل ما يمكن من الأضرار في حالة الحرب مع تجنب المساس بالمصالح الحقيقية للآخرين". ويمكن ان نجمل كل التعريفات التي قدمها المؤلفون للديبلوماسية في رؤيتين كبيرتين: الأولى تعتبرها علماً، بينما تنظر إليها الثانية على أنها فن. وتتجلى لنا الديبلوماسية في صورة ومظاهر متعددة ومختلفة، لكن اختلافهما ظاهري، فكلما اتسعت معرفتنا بها تقلصت قدرتنا على التمييز بين العلم والفن فيها. واعتقد أن كل الذين حاولوا الإحاطة بها لتقديم تعريف شامل وقعوا في نوع من الادعاء. وساهمت الدراسات التاريخية والأبحاث التي تناولت أصول الديبلوماسية في إلقاء الضوء على تطور ماهيتها وعلى الميادين الواسعة التي تمثلها. واختلفت عبر التاريخ الفكرة التي تكونت لدى الناس عنها طبقاً للجهة التي تتوجه لها، إن كانت مدناً بالمعنى اليوناني القديم للمدينة أو دولاً أو مجموعة دول، وكذلك طبقاً لطبيعتها إن كانت مجموعات رسمية أولاً، ملوكاً أو أمراء، وأيضاً طبقاً لمركزها في المجتمع الدولي. وطبعاً ليست الديبلوماسية علماً أو فناً جديدين، فمفهومها كرسته محكمة العدل الدولية التي أوضحت بمناسبة أزمة الرهائن في السفارة الأميركية في طهران عام 1979 ان "الديبلوماسية صرح شيدته الإنسانية بكثير من الصبر والعناء على مدى القرون". وإذا كنا لا نعلم على وجه الدقة متى وأين ولدت الديبلوماسية، فإننا نستطيع أن نؤرخ ولادتها باليوم الذي أرادت فيه مجموعة من البشر إقامة اتصالات مع جيرانها. ويعتقد عدد من الباحثين ان تاريخ الديبلوماسية لا يصل إلى ألف عام إذا ما نظرنا إليها في معناها المؤسساتي والدائم وبالتالي العلمي. وللتلخيص، يمكن القول إن الديبلوماسية ليست أمراً جامداً، فالتطور الذي عرفته منذ ظهورها والنمو الذي هي مرشحة حتماً لأن تشهده في المستقبل، يفرضان علينا أن نستوعبها في شمولية أبعادها وتعدد ملامحها. ومن أجل هذا الهدف سنحاول الاعتماد على تحليل مسار الديبلوماسية في نشوئها وارتقائها لاستجلاء الطابع الأساسي الذي تتسم به، منطلقين في ذلك من الفرضية الأولى القائلة بأنها بدأت فناً لكنها أخذت تتحول إلى علم مع تعاقب الأزمنة وتغير الأحوال وتنوع حقولها ومزاياها. فإذا قلنا إنها علم، افترضنا ان يكون الديبلوماسي ملماً بالقانون الدولي العام والخاص ومطلعاً على العادات والأعراف الدولية وعارفاً بتقاليد الأمم ومصالحها وخصائص مجتمعاتها والعلاقات التي يتعين اقامتها معها. أما إذا اعتبرناها فناً، فإن ذلك يفترض أن يكون الديبلوماسي يملك موهبة الملاحظة والتحليل والاستنتاج وتركيز استخلاصاته، بالإضافة إلى الكياسة واللياقة وطيب المعشر. في سياق الرؤية التي عرضناها نميل إلى القول إن الديبلوماسية كانت وهي في الأصل فن، ونعتمد في هذا القول على الأسانيد التالية: أ - يقر جميع المؤلفين والباحثين بأن جذور الديبلوماسية ترجع إلى نشوء العلاقات البشرية. ويؤكد التاريخ ان القبائل والمجموعات الإنسانية البدائية عرفت الحروب مثلما عرفت السلم، وأنها وقعت معاهدات الصلح والوفاق ومارست الطقوس الدينية والاحتفالات السياسية وعقدت العلاقات التجارية مع بعضها البعض. ب - لم يظهر العلم ويتبلور إلا بعدما وصلت الإنسانية إلى مستوى متقدم من الرقي والنهضة، وفي المقابل فإن الفن باعتباره فطرياً وعفوياً يمس جبلة الإنسان أي الخصائص التي جبل عليها، ولذلك فإن وجوده كان سابقاً لوجود العلم. ونستنتج مما تقدم أن الديبلوماسية كانت فناً قبل أن ينظر إليها الإنسان على أنها علم، ومضت قرون عديدة لكي ترتقي إلى مرتبة العلم القائم بذاته. لكن، إذا كانت فنون عديدة قد جاءت ثمرة لتطور الحضارة في العصور اللاحقة، فإن الديبلوماسية قديمة قدم العلم والإنسان، وهي موزعة على جميع الشعوب التي تنزع إلى تكوين عصبيتها الاجتماعية. بيد أنه يجوز لسائل أن يسأل هنا ما هي مبررات هذا التعريف للديبلوماسية؟ يمكننا تبرير ذلك في ضوء التعريف المقتضب الذي قدمناه للفن بفكرتين أساسيتين: أولاهما أن الديبلوماسية هي حقل يمكن لمواهب الإنسان أن تنطلق فيه ولذكائه الخلاق أن يتفتق. والثانية تتصل بالفاعل نفسه، أي الديبلوماسي، فمن البديهي أنه لا فن بدون الإنسان ومن أجل الإنسان، لأن الفن هو من صنع أفراد موهوبين يتمتعون بذكاء مرهف. وفي هذا السياق يعرف آرنست ساتو الديبلوماسية بوصفها "الذكاء والكياسة اللذين يوضعان في خدمة العلاقات الرسمية بين حكومات الدول المستقلة". وتوحي هذه القراءة بأن مهنة الديبلوماسي هي الوحيدة التي تفترض من صاحبها الانطلاق من رؤية فنان، لذلك لا يمكن حصرها في كونها مجرد العلاقات الخارجية للأمة ولا أيضاً في اعتبارها مؤسسة من مؤسسات الدولة فقط. يميل القادة عادة إلى اختيار ممثليهم من بين فئة محددة من الناس، فبالإضافة إلى الاصول الاجتماعية يحبذ أن يتوافر فيهم حضور البديهة واتقاد الفكر والزاد الثقافي والفصاحة والخبرة. وعند الرومان كان الديبلوماسيون يعرفون بكونهم خطباء. وتأكد هذا البعد أكثر فأكثر عندما أصبحت الديبلوماسية دائمة وعندما اشتدت المنافسة بين مصالح الدول المختلفة في سياق الثورة الصناعية وتنامي الرأسمالية التجارية. ومنذ تلك الحقبة أصبحت الديبلوماسية دائرة مغلقة وخاصة بالديبلوماسيين المحترفين دون غيرهم. وفي إطار تبلور مواصفات السلك، حدد هارولد نيكولسون قائمة بالصفات التي ينبغي أن تتوافر في الشخص ليدخل نادي الديبلوماسيين، أبرزها: الدقة وهدوء الأعصاب والصبر والبشاشة والتواضع والولاء والعلم والتمييز بين الأشياء والحذر وكرم الوفادة والجاذبية والنشاط والشجاعة واللياقة... الخ. وجاء تبلور نظرية الديبلوماسية ثمرة لتلاقح العبقريتين اللاتينية والانكلوسكسونية في العصور الحديثة. واعتمدنا كثيراً على ما تركه الاغريق وكذلك على ارث الحضارة العربية الإسلامية في هذا المجال، مما جعل أركان هذه النظرية تتبلور عبر التاريخ لبنة بعد أخرى، دون أن تلغي أية حقبة سابقاتها. ولعب ما يحيط بالديبلوماسية من حصانات وامتيازات وأسيجة، وما تتميز به من لباقة وكتمان، دوراً كبيراً في جعلها تمارس اغراء على الناس من العصور القديمة إلى يوم الناس هذا. ولذلك فإن لدى الدارسين ميلاً لا يقاوم لاعتبارها ضرباً من العلم، علم الديبلوماسية، الذي اكتملت ملامحه ونضج نموه بعدما تغذى من اختصاصات أخرى متعددة لعلها أصبحت تكميلية للديبلوماسية، مثل التاريخ وعلم الاجتماع والقانون وعلم النفس... الخ. لكن هذا العلم، الذي لا نعرف له مهداً ولا تاريخ ميلاد، يعود بالتأكيد إلى أكثر من ألف عام، ومجاله موزع جغرافياً على مناطق عدة، بيد أنه لم يعن مباشرة سوى شريحة محدودة من الإنسانية. واستطاع النموذج الديبلوماسي الحديث الذي يوصف بكونه غربياً أن يوسع "امبراطوريته" إلى العالم بأسره، إلا أنه بات متهماً، لا لأنه ينطوي على قسط من المسؤولية عن الحروب ومعاهدات الصلح التي عرفتها البشرية فحسب، وإنما أيضاً لأن التطور التكنولوجي وتغيير الاخلاق الدولية أصبحا يدعوان للشك في وسائله وجدواه. أما التغييرات التي طرأت على الديبلوماسية، فلم يتوقف الناس عندها لأنها بدت وكأنها أمر طبيعي بل ضروري. وعلى رغم ذلك أثرت تلك التغييرات في طبيعة الديبلوماسية نفسها أيما تأثير. ويكفي لإدراك عمقها ومداها أن نتصور ماذا كان يمثل ايصال معلومة إلى ديبلوماسي في القرون الوسطى معتمد لدى دولة يصعب الوصول إليها لأنه يعسر أن تتاح فرصة لرؤيته بسرعة بعدما يغادر عاصمة بلده. ومن هنا يجوز لنا أن نتساءل: هل أن الديبلوماسية هي نفسها لدى السفراء القدامى ولدى ديبلوماسيي عصرنا الراهن أم لا؟ ألم يرتفع نصيب العلم في هذه المهنة ارتفاعاً كبيراً؟ بمعنى من المعاني نستطيع القول إن الانتشار الواسع لوسائل الاتصال المتطورة لم تسهل الاتصال بين الديبلوماسيين المباشرين ومراكز القرار في بلدانهم فحسب، وإنما ساهمت أيضاً في انتشار الديبلوماسية بوضع حد لطابعها "الخارجي" بالنسبة إلى فئات اجتماعية واسعة. وباتت الديبلوماسية اليوم نتيجة لتلك التطورات تستند إلى ناموس دولي ومنظومة من القواعد العالمية التي يمكن للخصوصيات الوطنية أن تعبر عن نفسها في إطارها بصيغ وأساليب متفاوتة. كذلك أصبحت الديبلوماسية تمارس طبقاً للاستراتيجية لا تختلف في صرامتها عن صرامة العلماء، وبدرجة من الموضوعية تعادل - إن لم نقل تفوق - الاعتبارات الذاتية في تقدير نسبة المخاطر والمصالح للبلد المعني الذي يمثله الديبلوماسي. ألم يتحدث بعض المؤلفين عن الديبلوماسية الواقعية قياساً على المفهوم الشائع للواقعية السياسية؟ ومن هذا المنظور يتداخل علم الديبلوماسية مع دراسة العلاقات الدولية، مع فارق يتمثل في كون استيعابها يكون خلاقاً ويوظف المفهوم بأحسن الصيغ في خدمة المصالح الوطنية. ونستنتج مما تقدم أن الإحاطة الشاملة بمفهوم الديبلوماسية أمر صعب فهو دائم التطور وغني بالاضافات، ولكن، يبدو جلياً أن التقاليد الغربية في هذا المجال ليست غير مسبوقة ولا هي فريدة وجديدة بالمقارنة مع سابقاتها. ومجمل القول إن الديبلوماسية تستطيع أن تساعدنا اليوم على فهم العلاقات الجديدة على الصعيد العالمي وعلى استيعاب التغييرات التي حدثت وما زالت تتفاعل مؤثرة فينا وفي مصيرنا. وهكذا فإن النمو الواسع الذي عرفته المنظمات الدولية منذ الحرب العالمية الثانية كان وراء نشأة مفهوم جديد هو الوظيفة العمومية الدولية أو الموظف الدولي، وقياساً عليه ادمج المؤلفون في نطاق الديبلوماسية المنظومة القانونية الخاصة بهذا السلك والتي تلخصها عبارة "القانون الديبلوماسي".