عندما زرت مقدونيا وألبانيا اللتين تواجهان العواقب المباشرة لأزمة كوسوفو، توقفت فيهما عند وضع المخيمات ووجدت ان كلاً من اللاجئين، وعددهم 800 الف، يعيش مأساته الخاصة، مأساة دمار الحياة. فكم من عائلة كانت تعيش حياة عادية واستيقظت فجأة وسط الجحيم: الكثير من هؤلاء اللاجئين شاهد اعدام والده وأخوته أمام أعينه، وبعضهم لحظ بعينه اغتصاب الأمهات والصبايا من جانب عصابات الميليشيات الصربية. فلم يبق من أمل لديهم سوى الفرار خارج كوسوفو بأقل ما أمكن من الزاد. تلك حكاية ترددت على ألسن اللاجئين الذين التقيتهم. فهؤلاء لم يفرّوا من بيوتهم بفعل حملة القصف التي يقودها حلف شمال الاطلسي وإنما نجوا بأنفسهم من الجرائم التي تنفذها القوات الصربية. فكم ناشدوني ان لا انسى حكايتهم. ويشجعنا اللاجئون على مواصلة الحملة على القوات الصربية لأنها الحملة السبيل الوحيد لفتح طريق عودتهم. وكانت تجربتي بين كهول وأطفال اللاجئين مؤثرة للغاية ووجهنا معاً الأنظار صوب كوسوفو ووعدتهم بالعودة معهم. لقد حاولنا على مدى عام ايجاد حل ديبلوماسي بينما كان الرئيس ميلوشيفيتش مستمراً طواله في تنفيذ سياسة الكُره العنصري. وخلال مفاوضات رامبوييه في شهر آذار مارس الماضي وقع ألبان كوسوفو الاتفاق الذي رفضه ميلوشيفيتش، وفي الوقت الذي كان ممثلوه يفاوضون في باريس كانت قواته تعبىء صفوفها كي تدفع سياسة التطهير العرقي الى حدودها القصوى. آنذاك وجد حلف شمال الاطلسي نفسه امام واجب التحرك وهو ما تم فعلاً. وكانت استراتيجيتنا تهدف، ولا تزال تهدف، الى تحقيق هدفين: اصابة البنى التحتية التي تمكن ميلوشيفيتش رقابة قواته العسكرية وشل الوسائل التي تستخدمها في حملة التطهير العرقي وتشريد ألبان كوسوفو. وأمام سير فصول الكارثة الانسانية ردّت قوات حلف شمال الأطلسي بالسرعة والدقة اللازمتين وأعادت ملاءمة مهمتها الانسانية. فأقامت المخيمات الأولى في برازدا مقدونيا في ظرف ثماني وأربعين ساعة بأيدي 400 جندي من قوات الحلفاء، وكان عليهم في البداية توزيع وجباتهم الخاصة على اللاجئين واحاطوهم بالعناية في المستشفيات. ويعمل الآن 14 ألف جندي على تقديم الخدمات في مخيمات تعد 100 ألف لاجئ. كما سارعت قواتنا إلى البانيا حيث يعمل 7 آلاف جندي، بعضهم وفرته سبعة بلدان لا تنتمي الى عضوية حلف شمال الأطلسي، لتقديم الخدمات الإنسانية ل400 ألف لاجئ في إطار عملية "الملاذ المتحالف". ويتعاون الحلف منذ بدء العمليات الإنسانية مع المفوضية العليا لشؤون اللاجئين. وتبدو الشراكة كاملة بين قوات حلف شمال الأطلسي والمنظمات غير الحكومية، وانني فخور بأداء جنودنا في مهمة لم تعهد إليهم أصلاً. نحن نتحمل واجبنا الاخلاقي ازاء ضحايا الرئيس ميلوشيفيتش ولو تأخرنا لفقدت المبادئ التي يقوم الحلف على أساسها قيمتها. لقد انقذت قوات الحلف حياة العديد من اللاجئين ومنحتهم فرصة الحياة، حيث يولد العشرات من الأطفال في المخيمات. وستظل تقوم بدورها وفقاً لمقتضيات الوضع. لقد عاينت الضغط البشري الذي تشهده البنى التحتية وحدود الامكانات المتوافرة ونبذل ما في وسعنا لمضاعفة طاقة الاستيعاب وإقامة مخيمات جديدة. وأبلغت السلطات في كل من مقدونيا وألبانيا عرفاننا وتقديرنا للمسؤوليات التي تتحملها في هذه المنحة وإشادة المجموعة الدولية بكرم الشعبين المقدوني والألباني. ولا يغيب عن نظري الجهد الكبير على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي الذي تقتضيه مهمات استيعاب مئات آلاف اللاجئين. ولن ننسى ذلك، ولن ندير الظهر للبلدان التي ساعدتنا ونهيأ للمشاركة في مسار إعادة الإعمار. وفي مبادرته ازاء جنوب شرق أوروبي، يقدم الحلف التزامه حيال المنطقة في المدى البعيد. فيتوجب علينا منح شعوب المنطقة الأمل بغدٍ أفضل. كان الاتحاد الأوروبي وفر مساعدة مالية كبيرة ويمهد لعقد مؤتمر ميثاق استقرار منطقة جنوب شرقي أوروبا في 27 أيار مايو الجاري. كما ستشارك المنظمات الدولية كافة في هذا الجهد الجماعي. إنها بداية استثمار لجهد المجموعة الدولية في إرساء استقرار المنطقة في الأمد البعيد، بما فيها يوغوسلافيا الديموقراطية. لم يحقق الرئيس ميلوشيفيتش سوى العزل والإفقار لما كان يعد بلداً أوروبياً كبيراً. إن الشعب اليوغوسلافي يستحق مستقبلاً أفضل. ونحن نتطلع إلى رؤية يوغوسلافيا تعود إلى حظيرة المجموعة الدولية ويحتل شعبها مركز مهمة حلف شمال الأطلسي. لقد تحركنا دفاعاً عن الحقوق الأساسية، الحرية والديموقراطية وسيادة القانون، التي يجب أن يتمتع بها شعب كوسوفو مثل بقية شعوب العالم. ولا تزال الشروط التي حددناها في 12 نيسان ابريل الماضي واضحة: فعلى الرئيس ميلوشيفيتش وقف اعمال القتل، وسحب قواته، والسماح بنشر قوات دولية، وعودة اللاجئين، والقبول بحل سياسي دائم يقوم على أساس اتفاقية رامبوييه. وأي من هذه الشروط ليس قابلاً للتفاوض. أما موافقة ميلوشيفيتش عليها بسرعة فستجعل انطلاق مسار إعادة الإعمار أبكر. وفيما نتهيأ لدخول الألفية الجديدة، فإن الحلف يعمل مع المجموعة الدولية من اجل ان تكون السياسات الشريرة للرئيس ميلوشيفيتش طي الماضي. وسنتوصل الى وقف محنة اللاجئين وقواتنا جاهزة للدخول الى كوسوفو متى تيسر ذلك ليس لتأمين عودة اللاجئين الى بيوتهم فحسب، وانما للعيش فيها بسلام. اننا نسعى الى حل سياسي دائم يضمن استقرار البلقان وإدماج سكانها ضمن أمم المجموعة الدولية، بعد تغييبهم عنها طويلاً. * الأمين العام لحلف شمال الاطلسي. ** ترجم المقال مراسل "الحياة" في بروكسيل نورالدين الفريضي.