بكل ما يحمله الشباب من تدفّق، ومشاعر حارة، شارك خمسة وثلاثون فناناً شاباً من بينهم أربع وعشرون فنانة في معرض هو بمثابة تحية الى الرحابنة: عاصي، منصور وفيروز، وقد تحوّل الى تظاهرة شبابية استثنائية لم تشهد دمشق، ربما، مثيلاً لها منذ سنوات طويلة، ولم تتسع القاعات الفسيحة لكنيسة الصليب المقدس أمام هذا الحشد الواسع الذي فاض، فراح يبحث عن موطىء قدم له في الردهات والسلالم والفسحات الخارجية، فالمناسبة ليست مجرد افتتاح معرض تشكيلي عادي، وإنما شكل من أشكال التعبير الوجداني، الجماعي عن حب صادق وعميق لهؤلاء العمالقة الكبار الذين صاغوا بفنهم الرفيع أحاسيس وذاكرة وهوية أجيال عديدة نمت وترعرعت على شدو أغانيهم، وسحر موسيقاهم وشفافية أشعارهم، وبالتالي عظمة فنهم الذي رسم ملامح مرحلة كاملة من تاريخنا الفني والموسيقي والثقافي المعاصر. أما الحضور الأنثوي في هذه التظاهرة الاستثنائية، الذي هيمن بشكلٍ شبه كامل تقريباً، هو نقطة أخرى لافتة أيضاً في هذه المناسبة، مما يدل على دور المرأة وغناها الداخلي وحساسيتها في التقاط الأشياء. الطفولة بعفويتها الصادقة، كانت حاضرة أيضاً، من خلال معرض موازٍ لرسومات الأطفال "أغاني الرحابنة في عيون الأطفال"، وفيه شارك عشرون طفلاً وطفلة من الموهوبين في مجال الرسم بأعمال عبّرت عن أحاسيسهم المرهفة تجاه أغاني الرحابنة التي فاضت على الورق أشكالاً، وألواناً طفولية غاية في الغنى والبساطة والشفافية. تنهض فكرة هذه المعارض على رسم لوحات تشكيلية بمواد وألوان وتقنيات مختلفة، وهي من وحي الأعمال الشعرية، أو الفنية لهؤلاء المبدعين الكبار، لذلك يشعر الفنانون الشباب المشاركون أثناء التحضير لهذه المعارض بمسؤولية كبيرة، وخوف مشحون بالتوتر والحب والقلق، لأن المطلوب منهم الارتقاء بفنهم وأدواتهم الى مستوى يليق بهذه القامات الكبيرة. حول علاقة التوتر هذه، التي عاشها هؤلاء الفنانون الشباب أثناء التحضير لهذا المعرض، ورهبتهم من عدم الارتقاء بفنهم الى مستوى يليق بقامات "الرحابنة" الشامخة، التقينا عدداً منهم. الفنانة حواء عزّت، وهي ابنة الشاعر حسان عزت قالت: "معظم رسوماتي، هي ربما، بشكلٍ لا شعوري، تدور حول مناخات فيروز وصوتها الساحر، لأنني فتحت عيني على ألحان الرحابنة التي باتت جزءاً مكوِّناً من ذاكرتي، وعالمي الداخلي. اشتغلت أكثر من لوحة لهذه المناسبة، لكنني شاركت بلوحة واحدة فقط هي "السمكة الفضية". الفنانة هيفاء الجندي قالت: أنا شاركت بثلاث لوحات، واحدة بإسم "بعدك على بالي"، وقد أعجبت الفنان منصور، فقدمتها هدية له. أغاني فيروز، تأخذنا دائماً الى عالم جواني دافىء، وكنت باستمرار أرغب في رسم لوحة تعبر عن أغانيها، خصوصاً وأنها حاضرة بقوة في عالمي أثناء الرسم، وبشكل خاص أغنية "يا عاقد الحاجبين" و"بعدك على بالي"، فأنا أعيش مع طيف سيدة الضوء وأرسم. أعمالي رمزية تعبيرية. شاركت بالمعارض التكريمية السابقة لنذير نبعة، ونزار قباني، والماغوط، وهذه هي المشاركة الرابعة لي. الفنان ملهم نصر، الذي رسم بورتريه جميلاً للفنان منصور الرحباني، أثار انتباه الجمهور، قال: البورتريه هو هدية للفنان منصور، لكن معالجتي له كانت تقليدية، لأنني رغبت بإظهار الملامح العامة للشخصية، لكنني من الناحية الروحية ركّزت على إظهار الغنى الداخلي لهذه الشخصية، مستفيداً مما تعنيه لي مدرسة الرحابنة وذلك من خلال توظيف اللون بشفافية تقارب شفافية الرحابنة الغنية عن التعريف. الفنانة نورما لاجين قالت: مهما عملنا فلن نرتقي الى مستوى عالم الرحابنة، عندما قررت المشاركة عشت حالة من القلق والتوتر، لكنها كانت حالة حلوة. فأنا أحب فيروز وألحان الرحابنة لكن تعقيدات الحياة وظروفها الصعبة تبعدنا أحياناً عن سماعها، لذلك كان المعرض دعوة للتفكير: من هم الرحابنة؟ وماذا تعني فيروز بالنسبة لي؟ وللإجابة على هذا السؤال لم أكتفِ بسماع الأغاني، بل بحثت عن كتب للإطلاع على حياة الرحابنة وأعمالهم وكان هذا فرصة لي لاكتساب ثقافة حول الموسيقى والغناء، وتطورهما بعد الحرب العالمية الثانية. لقد اطلعت على تاريخ دخول الأسطوانات، ودور الإذاعات في تطور الأغنية، إذ بهذا الوقت أعطى الرحابنة هوية للبنان والمنطقة بحسهم الجميل ولونهم المتفرد. كل هذا كان خلفية ساعدتني على رسم بورتريه للسيدة فيروز، وكم أتمنى أن يعجبها لأنني عندما كنت أدقق بصورتها، كنت أرى الحنان في عيونها... أرى الحزن، وتلك النظرة، الجارحة، المليئة بالحدة والرقة في آن. الفنانة ريتا زكُرت شاركت بثلاث لوحات، وقد قاربت الموضوع من زاوية مختلفة تظهر من خلال عناوين لوحاتها: استشراق امرأة في الصحراء، في شارع استنبول، مرفأ استنبول حول نظرتها المختلفة قالت: أنا ليس لدي أي شيء أقدمه للرحابنة غير فني، كثيرون رسموا لهم بورتريهات فيها تشخيص. أنا رغبت أن أشتغل على شيءٍ آخر يخصُّ عالمي الداخلي، الذي يشغل الرحابنة حيزاً كبيراً فيه. الفنان معتز نصر شارك بثلاث لوحات: بورتريه لعاصي، وآخر لفيروز، وعمل عن الطبيعة. وممّ قال: أشعر بالسعادة والشرف لمشاركتي بهذا المعرض المهدى للرحابنة لأنهم بصراحة آخر قوافل عمالقة الفن العربي، تركوا الأثر الطيب الذي تعدى كل الحدود، لذلك فكل الكلمات واللوحات لا تستطيع أن تعبر عن مشاعري وحبي لهم.