في المبدأ، كان يفترض في الأزمة الاقتصادية المالية العالمية ان تشكل لحظة استثنائية للاشتراكية الديموقراطية الأوروبية للخروج من أزمتها المتجلية بفقدانها الحكم وتأييد الغالبيات الشعبية في معظم ما كان يسمى بلدان أوروبا الغربية. لكن انتخابات البرلمان الأوروبي ثم الانتخابات التشريعية الألمانية شهدت العكس من حيث تعميق الخسارة وامتدادها والذي لا يحد من دلالاته ربح الحزب الاشتراكي اليوناني للانتخابات التشريعية نظراً لطرفية الموقع اليوناني وتأثيره أوروبياً. كما من المرتقب أن تحيق الخسارة بحزب العمال البريطاني في الانتخابات التشريعية المقبلة. ولا تبدو حظوظ الحزب الديموقراطي الإيطالي (حزب يسار الوسط) كبيرة على رغم نجاحه بتنظيم انتخاب أمينه العام الجديد بيارلويجي برساني باقتراع ثلاثة ملايين مؤيد نال أصوات أكثريتهم (52 بالمئة) منذ الدورة الأولى في انتخابات تمهيدية، وعلى رغم اتساع موجة النقد لبرلسكوني. ومعنى ذلك الأول ان الاشتراكية الديموقراطية الأوروبية ليست اليوم في وضع يمكّنها من استثمار الفشل المُعلن للتيار النيوليبرالي خصمها الفكري والسياسي الرئيس في العقدين الأخيرين بعد انهيار خصمها الآخر وشقيقها اللدود المعسكر السوفياتي واشتراكيته «العلمية»، وأن أزمة هذه المجموعة ليست عارضة او سطحية، وأنها تطاول الديناميات التي جعلتها أكبر كتلة حاكمة في أوروبا الغربية في التسعينات ومطلع القرن الجديد. يميل بعض اليساريين عموماً الى تفسير هذا التآكل كرد فعل على ما ينسبونه الى الاشتراكية الديموقراطية من تخلٍ مُحدَث عن هويتها اليسارية. ويستشهدون في هذا النطاق خاصة بالتيار الذي أسّس له حزب العمال البريطاني منذ 1997 بقيادة طوني بلير، والذي يتهمونه بأنه اشتراكي - ليبرالي تخلّى عن التأميمات واتجه الى الخصخصة الكثيفة بالتزامن مع ترك التخطيط وآليات السيطرة على السوق. أما اليساريون فلا يكترثون الى تراجع الحركة الاشتراكية الديموقراطية الانتخابي إلّا من زاوية اعتباره برهاناً على أن «الشعوب» بدأت تدرك «صحة» تقييمهم السلبي لهذه الحركة كانحراف تاريخي لانزياحها التدريجي عن مبدأي «الثورة» و «الصراع الطبقي». وإذا كان صحيحاً أن قسماً من ناخبي الاشتراكية الديموقراطية الأوروبية قد تحوّل عنها في السنوات الأخيرة الى أحزاب وتحالفات انتخابية ذات هويات يسارية تعددية مركبّة (الخضر ودعاة العولمة البديلة وبعض حركات المجتمع المدني وحتى بعض الشيوعيين السابقين كما في الحالة الالمانية) والى تيارات وسطية ويمينية، إلّا ان ذلك لا يمكن توصيفه كرفض جوهري مستدام لهذا التيار وإلى مطالبة متجددة بالاشتراكية. والأصحّ كما تثبت مقارنة التحقيقات الميدانية واستطلاعات الرأي اعتباره تصويتاً احتجاجياً على عدم فعالية الاشتراكية الديموقراطية في وقف التردي الذي آلت اليه أحوال الدولة الرعائية وبخاصة فئاتها وشرائحها الاجتماعية الأكثر هشاشة والأقل حماية، في ظل العولمة المتسارعة والثورة التواصلية ودخول الغرب عموماً في الاقتصاد ما بعد الصناعي وحمولته من نهاية التشغيل شبه الكامل والدائم وتعذر بناء المسارات الفردية ضمن سياقات آمنة ومفتوحة نسبياً لإمكانية الصعود الاجتماعي وتأزم تمويل التأمينات وتقلصها. وهذه أسباب لا تتصل بالسياسة وببرامج الاشتراكية الديموقراطية وحدها إلّا بمقدار ما تخفق هذه في صياغة سياسات جديدة لإعادة التوزيع وللنمو لا تقتصر على المراوحة بين استلهام النموذج الكينزي الكلاسيكي لاقتصاد الدولة الرعائية كما ساد بعد الحرب العالمية الثانية وبين التأثر البراغماتي ببعض السياسات الليبرالية القصوى التي تتبدّى اليوم مآزقها الحادة كما ظهرت في الأزمة الأخيرة التي تقول اميركا انها بدأت بالخروج منها فيما لا تزال أوروبا تعاني آثاره. وثمة أسباب إضافية لملاحظة ان تراجع شعبية الاشتراكية الديموقراطية لا يعود الى «الهوية» إلّا بصورة جزئية وحسب. فهذه الحركة متعددة التيارات وهويتها المركّبة بُنِيَت تاريخياً على دينامية أخذ مسافة أكبر فأكبر عن الماركسية الكلاسيكية كما قدمتها الحركة الشيوعية. وتقول شيري بيرمان الكاتبة والباحثة في جامعة كولومبيا ان هوية الحركة قامت على أهداف اجتماعية محددة ديموقراطياً تحرز الأولوية على قوى السوق التي يجري إخضاعها لتحكُم الدولة والمؤسسات التي تؤمن التضامن الوطني. وهي تعود في عملها الى ينابيع الحركة التي تعتبرها في خصومة مع الليبرالية الاقتصادية والماركسية، اللتين تهدفان الى إخضاع السياسي للقوى الاقتصادية. وهو توجه كان ادوار برنشتاين اول المنظرين له في نهاية القرن التاسع عشر. وربما أن تعيين «السياسي» و «التضامني» كأولويتين لهما الأسبقية على الاقتصادي، ترك بعض الضبابية على الأهداف النهائية للحركة كما سمح بمرونة فكرية ملحوظة. إذ بخلاف الايحاء باشتراكية تتحقق بالتدريج لدى بعض المؤسسين (الفابية مثلاً) فإن الاشتراكية الديموقراطية العصرية كما يقول جوناس هنفورز استاذ العلوم السياسية في جامعة غوتنبرغ في السويد، لم تفترض يوماً ان الدولة الرعائية ستتحول الى الاشتراكية. وهو حكم أسنده الى مقارنة برامج حِزْبَي الاشتراكي السويدي والعمالي البريطاني منذ 1960. أما تبني هذه البرامج للتخطيط فهدفه التأكيد المبدئي على أولوية السياسي والتضامني وليس اكثر. فهو ليس لاستبدال حقيقي لنظام السوق ولكن لإجراء تدخلات تصحيحية عليه. وبهذا المعنى لا يمكن فهم السياسات الاشتراكية الديموقراطية كمراحل في مشروع تدريجي. فالمرحلة التالية كانت تبقى فضفاضة بينما كان هناك فعلاً مشروع إجمالي عنوانه: اقتصاد سوق تجري موازنته بدولة رعائية قوية. وفي ذلك رد على مقولة تبسيطية تدّعي ان هناك قطعاً بين اشتراكية ديموقراطية كانت دولتية وتخطيطية حتى بداية السبعينات واخرى أتت بعدها ورضخت لمقولات الليبرالية. وضمن السياق ذاته يمكن ان نضع تعريف يوهان اوكونت - الاستاذ في معهد الدراسات العليا للعلوم الانسانية في باريس - للاشتراكية الديموقراطية بوصفها «جهداً توفيقياً وتسووياً بين اقتصاد السوق الذي يتخذ اشكالاً متنوعة وبين تدخل عمومي يهدف الى تحفيز الاستخدام في الوقت الذي يسعى فيه الى تصحيح التفاوتات الاجتماعية»، كما يمكن ان نضع قوله ان «الانظمة الاشتراكية الديموقراطية تم تشييدها الى حد كبير استناداً الى نجاحات الرأسمالية والى الفوز بأسواق خارجية». وإيجازاً يمكن القول ان الاشتراكية الديموقراطية كاتجاه سياسي فكري، معنية بصياغة معادلات دقيقة في مجموع ثلاثي العناصر: الفرد والدولة والسوق، وان بعض تياراتها قد يكون ذهب بعيداً في إعطاء العنصرالأخير أسبقية مُبالَغاً فيها كمحاولة لتجاوز تباطؤ النمو وآثاره السلبية على موازنات الدول وتمويل الإنفاق الاجتماعي، على غرار حزب العمال البريطاني تحت قيادة بلير. وذلك كله يثبت ان هلهلة نموذج النمو الاقتصادي الذي بنيت على اساسه نجاحات اليسار الإصلاحي كانت في أساس صعوبات الدولة الرعائية وفي إخفاقاته الحالية. وان مواضيع مثل «ضياع الهوية» والممارسات غير النزيهة أحياناً في الحكم والصراعات بين الاشخاص (وهو أمر يتساوى فيه تقريباً ممثلو مختلف القوى السياسية) والبناء الأوروبي والسياسة الخارجية، هي عناصر لعبت وتلعب أدواراً في توسيع فعالية العوامل الاقتصادية والبنيوية الأساسية دون ان يكون تأثيرها حاسماً بذاتها. لذا فالأزمة الحالية للاشتراكية الديموقراطية الأوروبية على رغم خطورتها لن تقرع أجراس تحولها الى قوة ثانوية الا اذا استمر تعثرها في تجديد منهجها باستدخال أهداف نوعية جديدة تعنى بمصائر الفئات التي همّشها الاقتصاد ما بعد الصناعي. * كاتب لبناني