حين نظمت "اليونيسكو" قبل سنوات ملتقى لثقافة السلام في غرناطة شارك فيه مثقفون عرب واسرائيليون وأوروبيون، فانها كانت تطبق مفاهيمها وبرنامجها عن السلم وثقافته، وتهتدي بميثاقها التأسيسي الداعي الى "بناء صروح السلم في عقول البشر" أولاً. فالسلام العادل والمديد من وجهة نظر منظمة اليونيسكو يقوم أولاً بين الشعوب ومثقفيها، بعيداً عن عقد الماضي وحساسياته، وعلى أساس من قواسم مشتركة من احترام العدالة والاعتراف المتبادل بالحقوق، وما يعنيه ذلك، بالضرورة، من رفض الاحتلال والعدوان والارهاب. وإذا كثرت في المكتبة العربية الدراسات والكتب الخاصة بالعلاقات الحضارية بين العالمين المسيحي والاسلامي، فإن القليل قد كتب عن الروابط التاريخية والثقافية واللغوية والسكانية بين العرب واليهود. وهذا ما يعالجه نسيم رجوان في كتابه الجديد: "عرب ويهود.. دراسات في الماضي ونظرة الى المستقبل" الصادر عن منشورات "رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق" 1998. وخلافاً لما تزعمه دعايات المتطرفين الاسرائيليين المعادين للعرب فإن اليهود والمسيحيين عوملوا معاملة متسامحة في ظل الدولة العربية الاسلامية، وكما يكتب خلدون ناجي معروف: "كان معظم الخلفاء العباسيين على جانب عظيم من التساهل مع أهل الذمة، وقد استفاد المأمون من مواهبهم العقلية وذخائرهم العلمية على اختلاف أديانهم وتباين مذاهبهم وأطلق لهم الألسن والأقلام". و"انفتح مجال واسع أمام يهود العراق فعالجوا مواضيع مختلفة في الرياضيات والطب والفلسفة والصرف واللغة العربية، واقتبسوا الشيء الكثير من آداب اللغة العربية". وكان النموذج الأندلسي ظاهرة ناصعة للتعايش الودي والتبادل الثقافي بين العرب واليهود. ففي عهد عبدالرحمن الثالث في قرطبة 912 - 961م عين موسى بن أخنوخ المستشار السابق للخليفة الأمين رئيساً للمثيبة التلمودية في قرطبة، وبتعيينه وبمساعدة دوناش بن لبراط، وهو أيضاً عالم يهودي من أصل عراقي، دخلت الدراسات اليهودية والفكر اليهودي عهداً جديداً انتج سلسلة طويلة من الأدباء والشعراء وعلماء النحو دامت خمسة قرون" وسميت تلك الفترة، كما يقول كتاب رجوان بالعصر "الذهبي" للثقافة اليهودية. وأدى التعايش اليهودي - العربي من الناحية اللغوية الى "إحياء اللغة العبرية بشكل لا مثيل له في جميع فروع الأبحاث اللغوية". ويشار أيضاً الى تأثر الشعراء اليهود بالشعر العربي الكلاسيكي، والى دور فلاسفة أمثال موسى بن ميمون. وفي الأندلس وجد المسلمون بقيادة طارق بن زياد مساعدات فعالة كانوا في أشد الحاجة اليها، كما يقول الدكتور محمد بحر عبدالمجيد، ولما استقر الحال للمسلمين في الأندلس منحوا اليهود حريات كانت محرمة عليهم في العهود السابقة، وأعيدت أراضيهم وأملاكهم المصادرة من قبل. ولذلك أيضاً هاجر كثير من يهود أوروبا الى الأندلس. ان المؤلفات والآثار الأدبية التي كتبها يهود الأندلس كانت انعكاساً واضحاً للثقافة العربية الاسلامية في أغلب فروع المعرفة. كما أن علماء العبرية لم يضعوا كتباً علمية في قواعد اللغة الا بعد أن تضلعوا بقواعد العربية. "والحقيقة ان التفاعل بين الثقافتين العربية واليهودية بدأ في بلاد المشرق على الرغم من أنه بلغ أوجه في الأندلس" رجوان. ويعود المؤلف الى موضوع آخر عن العلاقات الثقافية، وأعني الترجمة من والى كل من اللغتين. وقد لعب البروفسور ريبليين 1890 - 1971 دوراً في الترجمة من العربية، ولا سيما ترجمة معاني القرآن الكريم عام 1936 المعاد طبعها عام 1963 علماً بأن الكتاب الحكيم قد ترجمت معانيه أخيراً بقلم الدكتور أهرون بن شيمش. كما أن ريبلين ترجم السيرة لابن هشام، وعشرات القصائد العربية الكلاسيكية، وألف ليلة وليلة الذي صدر في ثلاثين مجلداً ما بين عامي 1947 و1970. ووضع ابراهيم المالح قاموساً مزدوجاً من العبرية الى العربية وبالعكس، كما ترجم كليلة ودمنة في طبعتين. وفي 1965 جرت ترجمة "المنقذ من الضلال" للغزالي، ومقدمة ابن خلدون، ومختارات واسعة من الشعر العربي الكلاسيكي. أما عن الأدب العربي المعاصر فقد شارك مترجمون وكتاب اسرائيليون، من بينهم شمعون بلاص، في ترجمة العشرات من الأعمال الأدبية لطه حسين، وتوفيق الحكيم، ومحمود تيمور، ونجيب محفوظ، ويوسف ادريس، ومحمود درويش، وأمين الريحاني، وجبران خليل جبران، وليلى بعلبكي، وغائب طعمة فرمان، وذو النون أيوب، وفؤاد التكرلي، ومحمد خضير، وزكريا ثامر، والطيب صالح وآخرين. وكانت أول ترجمة لكتاب "الأيام" لطه حسين الى اللغات الأجنبية هي ترجمة عبرية. ويخصص نسيم رجوان حيزاً لبحث مستقبل العلاقات بين العرب واسرائيل، ويستشهد بمقال لرستم بستوني، عضو الكنيست من حزب العمال الموحد مبام، وبآراء سالم جبران، أحد القادة النقابيين في حيفا، وقد أسسا معاً "لجنة العمل العربية - الاسرائيلية في سبيل اسرائيل. "ومن الاشكاليات التي يركزان عليها موضوع "بلورة العلاقات العربية - اليهودية داخل اسرائيل". ويرى هؤلاء انه يجب "تصفية جو العلاقات العربية - اليهودية في اسرائيل، على أساس محك واحد، ألا وهو المواطنة الاسرائيلية، لا فرق بين مواطن وآخر في الجنس والمذهب والعنصر". ويرى رستم بستوني أن الفلسطيني العربي داخل دولة اسرائيل يجب أن يعتبر نفسه مواطناً كالمواطن اليهودي، مع وجوب ممارسة كامل حقوقه في الحفاظ على هويته الثقافية واللغوية، والاعتزاز بالتراث الأدبي والفكري العربي، والمحافظة على العادات والتقاليد الفلسطينية، وأنه على يهود اسرائيل القبول بهذا الواقع، وبهذه الحقوق، ورفض كل أشكال التمييز. ولا شك أن انهاء سياسات التمييز والعنجهية العدوانية التي تتبعها حكومة نتانياهو، مدعومة من قوى التطرف الصهيونية السياسية والدينية، هو شرط لازم لوضع أسس التعايش السلمي سواء داخل اسرائيل، أو بين اسرائيل والبلاد العربية. ان الحوار الثقافي العربي - اليهودي الاسرائيلي لا يعني، ويجب أن لا يعني أي نوع من تزكية للاحتلالات، ولعقلية التوسع والصهر والقمع الصهيونية المتطرفة التي يمثلها نتانياهو ومناصروه. وان السلام الحقيقي هو القائم على الحق والعدالة والاحترام المتبادل لحق تقرير المصير، ورفض الاحتلال، ورفض الارهاب. وكما التطرف الصهيوني مرفوض فكذلك مثيله التطرف الفلسطيني - العربي، ويجب أن يتم التخلي عن المقولات عن "العداء الأبدي" لليهودية وعداء اليهود للاسلام والعرب، و"تدمير دولة اسرائيل"، والعمل من أجل الحوار المتكافئ، والحلول السلمية القائمة على أساس العدل، والشرعية الدولية. وهذه الشرعية، تعني، أولاً، قيام دولة فلسطينية مستقلة، وثانياً، انهاء الاحتلال الاسرائيلي لجميع الأراضي العربية التي احتلت عام 1967. ان المسؤوليات للوصول الى ذلك مشتركة، وان سبل الوصول، متعددة، ومن بين أهمها، تنمية وتطوير الحوار بين مثقفيالطرفين، مباشرة أو في اطار دولي، كاطار اليونيسكو، علماً أن اليونيسكو تعد لاجتماع "غرناطة 2". * كاتب عراقي مقيم في باريس.