هاتف ذكي يتوهج في الظلام    شكرًا لجمعيات حفظ النعم    خريف حائل    الدفاع المدني يحذر من المجازفة بعبور الأودية أثناء هطول الأمطار    الدبلة وخاتم بروميثيوس    صيغة تواصل    أماكن خالدة.. المختبر الإقليمي بالرياض    السل أكبر الأمراض القاتلة    نجد فهد: أول سعودية تتألق في بطولات «فيفا» العالمية    توطين قطاع الطاقة السعودي    أولويات تنموية    «الرؤية السعودية» تسبق رؤية الأمم المتحدة بمستقبل المدن الحضرية    الأنساق التاريخية والثقافية    نورا سليمان.. أيقونة سعودية في عالم الموضة العالمية    محمد البيطار.. العالم المُربي    من المقاهي إلى الأجهزة الذكية    «إسرائيل» تغتال ال«الأونروا»    هوس التربية المثالية يقود الآباء للاحتراق النفسي    رحلة في عقل الناخب الأميركي    لوران بلان: مباراتنا أمام الأهلي هي الأفضل ولم نخاطر ببنزيما    عمليات التجميل: دعوة للتأني والوعي    المواطن شريك في صناعة التنمية    الرديء يطرد الجيد... دوماً    مرحباً ألف «بريكس»..!    وبس والله هذا اللي صار.. !    لماذا مشاركة النساء لم تجعل العالم أفضل ؟    الأعمال الإنسانية.. حوكمة وأرقام    عسكرة الدبلوماسية الإسرائيلية    عن فخ نجومية المثقف    الذكاء الاصطناعي طريقة سريعة ومضمونة لحل التحديات    المرأة السعودية.. تشارك العالم قصة نجاحها    أندية الدوري الإسباني تساعد في جمع الأموال لصالح ضحايا الفيضانات    يايسله يُفسر خسارة الأهلي أمام الإتحاد    رسالة رونالدو..    النصر يلاحق العضو «المسيء» قانونياً    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان ملك إسبانيا إثر الفيضانات التي اجتاحت جنوب شرق بلاده    موعد مباراة الأهلي القادمة بعد الخسارة أمام الاتحاد    وزير الإعلام يعلن إقامة ملتقى صناع التأثير «ImpaQ» ديسمبر القادم    وزير الداخلية السعودي ونظيره البحريني يقومان بزيارة تفقدية لجسر الملك فهد    «الاستثمارات العامة» وسلطة النقد في هونغ كونغ يوقعان مذكرة تفاهم استثمارية    أمانة القصيم تكثف جهودها الميدانية في إطار استعداداتها لموسم الأمطار    مدير هيئة الأمر بالمعروف في منطقة نجران يزور مدير الشرطة    أمير منطقة تبوك ونائبه يزوران الشيخ أحمد الخريصي    المرشدي يقوم بزيارات تفقدية لعدد من المراكز بالسليل    أمانة القصيم تنظم حملة التبرع بالدم بالتعاون مع جمعية دمي    أعمال الاجتماع الأول للتحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين تواصل أعمالها اليوم بالرياض    الأرصاد: استمرار الحالة المطرية على مناطق المملكة    خدمات صحية وثقافية ومساعدون شخصيون للمسنين    جوّي وجوّك!    لا تكذب ولا تتجمّل!    «الاحتراق الوظيفي».. تحديات جديدة وحلول متخصصة..!    برعاية الملك.. تكريم الفائزين بجائزة سلطان بن عبدالعزيز العالمية للمياه    معرض إبداع    مهرجان البحر الأحمر يكشف عن قائمة أفلام الدورة الرابعة    أحمد الغامدي يشكر محمد جلال    إعلاميون يطمئنون على كلكتاوي    الإمارات تستحوذ على 17% من الاستثمارات الأجنبية بالمملكة    جددت دعمها وتضامنها مع الوكالة.. المملكة تدين بشدة حظر الكنيست الإسرائيلي لأنشطة (الأونروا)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصير العراق ومستقبل ايران قد يتأثران بالفعل الاجتماعي والسياسي لموجة تجديد اسلامية شيعية ثانية
نشر في الحياة يوم 13 - 05 - 1999

يبدو ان حقبة نموذج الثورة الايرانية ونظرية "ولاية الفقيه" و"الحوزة المتحولة الى سلطة مطلقة" تحت قيادة "المرشد" المطلق الصلاحيات انتهت، وها هم "المتشددون" في ايران يجاهدون محاولين احصاء مصادر الخطر ووزنها، فلا يغيب عن النابهين منهم مغزى تكاثر الخنادق والجبهات الآخذة بالنهوض بوجههم، فليس "خاتمي" والأصوات التي جاءت به الى الرئاسة، مصدر قلق أخطر من تمخضات "الوضع العراقي" الذي انتهى، مثله مثل الوضع في ايران،الى مفاجأة غير محسوبة، وكما هي الحال مع الانتصار الذي حققه "خاتمي" تحولت الحركة الاسلامية في العراق واتجاهات تطورها منذ عام 1991 الى مصدر تهديد حاسم لمستقبل تيار "ولاية الفقيه" وهو ما لم يكن لا المتشددون في ايران ولا أي متابع يتوقعه، فالجميع كانوا يميلون للأخذ بالبداهة التي تقول بأن كل ضعف يصيب النظام الحاكم في العراق يتحول أوتوماتيكياً الى قوة تعزز مواقع تيار التشدد في ايران ....
ومن هذا المنطلق على ما يبدو يريد "المجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق" رفع وتيرة المواجهة المسلحة ضد النظام العراقي، فالنشاطات المتزايدة ل"فيلق بدر" منذ مقتل الإمام محمد صادق الصدر، لا تفهم على أنها مجرد محاولة لنفي التهمة، عن طريق إبداء أقصى ما يمكن من الغضب القتالي، بقدر ما هي نوع من سياسة تريد تغليب نهج بعينه في التعامل مع القضية العراقية، مع الحرص على تلافي الاهتزاز الذي لحق بصورة ومكانة رئيس المجلس الإسلامي الأعلى باقر الحكيم اثر مقتل الإمام الصدر.
هل وصل مسار عملية التجديد الثانية داخل التشيع الاسلامي الى صعود تيار التعددية والحوار على حساب تيار التشدد؟ الإجابة عن السؤال تحيلنا حتماً الى مسألة وحدة مسار التطورات داخل حركة الاسلام الشيعي الحالية، مع العلم ان تطورات الاسلام الشيعي المتأخرة، لم تفهم باعتبارها وحدة متفاعلة، وقد نظر اليها حتى الآن حسبما هو متحقق، فاعتبرت ظاهرة الامام الخميني والثورة ضد نظام الشاه بمثابة، تطور نهائي وحاسم، يخص ايران وحدها، مع أنه ليس كذلك على الإطلاق، فالخمينية هي واحدة من التعبيرات المبكرة غير النهائية ضمن موجة تجديد تاريخية شاملة، ما زالت مستمرة ولم تصل نهايتها بعد.
والإسلام الشيعي واجه منذ نهاية القرن الماضي ضرورات تطلبت قيام حركة تجديد أشبه بتلك التي عرفها الاسلام الشيعي الحديث ابتداء من الحركة الصفوية في ايران و"نظام الاجتهاد" في العراق. والتعبيران الحاليان عن هذه الضرورة الراهنة يمثلهما منذ الخمسينات ظهور حزب الدعوة الاسلامية 1957 - 1959 والإمام محمد باقر الصدر في العراق، والإمام الخميني في ايران.
هذان التعبيران هما الحصيلة التي انتهت اليها، تجارب وأحداث، وتحديات، يصعب احصاؤها هنا، ولكن، لا بد من التذكير بوجه عام، بأن الأجوبة النابعة من داخل الاسلام وباسمه على تحديات، الحضور الغربي الحديث، ومن ثم على تزايد ضغط المشاريع التحديثية والعصرية المحلية، الفكرية والسياسية، ومن خلال "الدول" الوطنية الحديثة، قد تعاقبت، متخذة شكل موجتين من عمليات التجديد، ونحن نعيش اليوم مع الموجة الثانية المنتشرة في أصقاع واسعة من العالم الإسلامي، منذ ان تفجرت مع بداية تراجع حركة التحرر العالمية ومشاريع الدول العصرية مع بداية الستينات.
ومع الاختلافات في الظروف فإن "الحوزتين" في كل من العراق وايران عرفتا ثقل تطورات كان اطارها العام يؤدي الى تقليص دورهما، أو يحيي فيهما الحاجة للدفاع عن مواقعهما أو الى لعب أدوار جديدة وتصدر العملية السياسية.
ووجود تعبيرين ينتمي كل منهما الى شروط تجربته الخاصة، قد عاد للظهور الآن مكرساً تقليداً كان قد ظهر في الموجة التجديدية الأولى. فالتشيع الحديث يبدأ مع الحركة الصفوية المعاصرة للحركة العثمانية، وقد كانت ايران قبل ذلك سنية في الغالب مثلها مثل العراق، الذي لم تنشط حركة التشيع الحديث فيه إلا منذ القرن الثامن عشر.
ومع ان الصفويين أقاموا دولة تحفزها كما حال العثمانيين دوافع امبراطورية، وانهم تمكنوا من احتلال العراق أو أجزاء منه، متناوبين بسط السيطرة على بغداد، مع جيوش الباب العالي، إلا ان قواعد التشيع الحديث، ونظمه الاساسية وقواعده العملية، لم تتحقق الا في وقت لاحق، وهو ما حدث في القرن التاسع عشر في العراق، فالتشيع قام في ايران بحد السيف، وأرسى سلطة لها شاهاتها وملوكها، الأمر الذي لم تعرفه حركة التشيع العراقية. فهذه الأخيرة امتازت بالتغلغل وسط القبائل والمشاعات القروية الزراعية المحاربة، في سياق مقاومتها للعثمانيين، فاندمجت بها واستجابت لقيمها الاساسية، المساواتية، الديموقراطية المحاربة تعبيراً عن استحالة قبولها لسلطة منفصلة عنها وعن مفهومها للسياسة والحياة.
وفي النجف تشكل "نظام الاجتهاد" على اساس التعددية، اي "التقليد" الذي يعطي الناس حق الاختيار والمجتهدين حق الافتاء بوجود المجتهد الأكبر، فلا مصادرة للقرار ولا للافتاء، وفي شروط تغذي المنافسة والتفاعل العلني. وهنا تكرس ايضاً مبدأ الاستقلال عن الحكومات خصوصاً منذ ان رفض الميرزا الشيرازي استقبال الشاه عباس في الطريق بين النجف وكربلاء كما فعل البعض، أو على باب النجف، كما فعل البعض الآخر، أو في مقر اقامته بعد ان استقر به المقام، كما رفض اعطيته التي قررها له ولغيره مدعياً انه "رجل درويش لا شأن له مع الحكام ولا حاجة له بمالهم" حتى فرض على الملك الزائر لقاء تم في الحضرة عند قبر الإمام علي بن أبي طالب، وقد جاء الشاه حافي القدمين، ليؤدي "الزيارة" خلف الشيرازي، فتكرست وقتها سابقة ثابتة لا تفرق بين حاكم ايراني "شيعي" أو تركي "سني". وعلى عكس ما هو شائع فإن موقف علماء الدين الشيعة المعروف من "الحكام" وخدمتهم، انما بدا في العصر الحديث بالصراع مع الحكام الصفويين "الشيعة" حين اتخذ قسم من العلماء اتجاه رفض الدخول في خدمة الحاكم الصفوي ايام كانت الدولة الصفوية في ذروة قوتها، ومنذ القرن السادس عشر، بعد وفاة مؤسسها الشاه اسماعيل عام 1524 واعتلاء ابنه طهماسب العرش، اتجاهه هذا "لاستخدام" العلماء في نشر المذهب، معترفاً بعجزه عن القيام بما كان يقوم به الأب المؤسس الذي ظل يضطلع بمهمتي الحكم والدعوة معاً، وقد اشتهرت وقتها المعركة بين الشيخين الكركي والقطيفي، بعدما دخل الأول في خدمة طهماسب وترك النجف ليسكن ايران، مما دفع بالقطيفي لتحرير رسالته المعنونه "قاطعة اللجاج في حل الخراج" ذماً ب"اتباع السلطان من العلماء" قاصداً الكركي الذي رد من جهته برسالة تجيز خدمة العلماء للحكام، اذا كان في ذلك خدمة للدين.
وهكذا اقترن التشيع الصفوي بصورة رجال الدين العاملين في قصر الحاكم، فلقد استحدث مع انتقال الكركي الى ايران منصب "شيخ الاسلام" الذي صار يتناوب على احتلاله رجال الدين الكبار متتابعين، ومع ان علماء كباراً فعلاً قد احتلوا ذلك المنصب، الا ان السمات الاساسية للتشيع المعاصر، لم تتبلور الا مع اكتمال النموذج العراقي الذي انتشر وساد في أرجاء وبلدان التشيع، متخذاً شكل المدن العلمية المستقلة عن السلطات والملتحمة بالمجتمع، والتي تحتكم للتعددية والمشورة كشرط لازم لعمل المجتهد وضرورة لإصدار الفتوى في القضايا الكبرى، ومن هذه الأسس اضافة لنظام التدريس الحر والمدهش في مرونته وانفتاحه، انطلقت تقاليد الحوزات العلمية في كل مكان، وبالطبع في ايران، وهي التي منحت الحركة الاسلامية هناك امكانية اقامة "سلطة موازية" إبان حكم الشاه مكنتها لاحقاً من تحريك الجماهير واسقاط النظام.
ولم يكن من المتوقع لنظرية "ولاية الفقيه" ان تظهر داخل الحركة الاسلامية العراقية، إلا أنها تبلورت اصلاً في كنف الحوزة في النجف، حين كان الإمام الخميني يقيم فيها، وهذا بحد ذاته دليل آخر على طبيعة المناخ الفكري السائد في هذه المدينة، فالإمام الخميني الذي كان يحاضر الى جانب آخرين، وتسنى له ان يلقي كراسه عن "الحكومة الاسلامية" على طلاب الحوزة، كان يعرف بأن هذا الذي يقوله لا صدى له في العراق، وان التعبير العراقي الجديد الموازي لنظريته في الحكم والولاية لم يكن غائباً، وطلبة الحوزة كانوا يستمعون وقتها لصوتين بارزين، صوت محمد باقر الصدر، وصوت الخميني. غير ان الخميني تمكن من الانتصار على نظام الشاه، وحقق واحدة من أخطر الثورات الجماهيرية التي عرفها عصرنا، وأول ما كان عليه ان يواجهه بعد سقوط حكم الشاه مباشرة، هو الانتقال للحرب التي نشبت بين ايران والعراق، وهذا حدث لم يكن ليتيح فرصة لاستمرار روح التعايش بين التيارين العراقي والايراني، فمال الخطاب الايراني بقوة نحو تسييد نموذجه وتصديره، وهو ما ترك لدى العراقيين عموماً مشاعر رفض قوية، وحين كان الإمام الخميني يطلق النداءات معدداً اسماء العشائر العربية الشيعية، في الوسط والجنوب، داعياً إياها للثورة، كانت النجف تستمع لذلك الصوت بامتعا ض مكبوت، بينما كانت العشائر ترد باستنكار، مصدره قناعتها الراسخة بأن ما يقوله الخميني هو تجاوز على دور المجتهد الأكبر وعلى النجف التي على الإمام الخميني ان يبادر ويطلب الفتوى منها في قضية حاسمة كتلك التي كان يدعو العراقيين لها وهو في طهران.
صحيح ان السيد محمد باقر الصدر تحدث عن مفهوم الولاية الموضوعية عاد الإمام صادق الصدر في 1991 - 1999 فاعتمد هذا المفهوم بعد ان اطلق عليه اسم الإمام مبسوط اليد أي الذي يحظى بتأييد العامة، وهو عين ما قصده السيد باقر الصدر الا ان الإمام الخميني كان له من يؤيدونه في ايران لا في العراق، ثم انه يبتدع مفهوماً قوامه الشرعية الثورية، وهذا لا يفرض اخذ مفهوم النسبة العددية الآنية بالاعتبار، فالشيعة الايرانيون أكثر عدداً، لكن "نظام الاجتهاد" جاء بفعل اختبار الزمن وطول التجارب وعلى بديله ان يقبل هو الآخر اختبارات الزمن، الذي بدأ يقول كلمته بسرعة مذهلة، فها هي أصوات الناخبين تحسم الموقف بينما الصراع بين تيار الاصلاح والتعددية والتيار المتشدد يفصح عن عزلة هذا الأخير مؤكداً كل يوم تقلص قاعدته الى أبعد حد، مما يعطي حق الولاية "الموضوعية" ل"خاتمي" لا لسواه.
ويتأكد اليوم ان التجربة الايرانية الراهنة لا تختلف كثيراً عن التجربة العراقية من حيث مضمون توجهاتها، صحيح ان الظروف كانت تفرض بعض الاختلافات التفصيلية الا ان محاولة تضخيم الفوارق والعمل على كسر القاعدة التي استند اليها الإمام الخميني طيلة فترة عمله، لم تكن مبررة حتى كاجراء مؤقت، فالإمام الخميني ارتكز اصلاً الى تراث نظام الاجتهاد والى الحوزة التي يعود الي بنيتها الفضل في قيام "السلطة الموازية". وإزاء نظام مثل نظام الشاه علته الاساسيه في ضيق قاعدته الاجتماعية، تمكن رجال الدين وقتها من تعميق الهوة بين النظام والمجتمع، وقام في حينه وضع يذكر بماضي النجف ايام العثمانيين، حين نجحت الحوزة في التداخل مع البحر العشائري المشاعي المحارب متحولة الى "دولة مدينة" وقيادة وطنية تطابق صورتها وبنيتها السياسية والافكار فيها صورة محيطها الذي تمثله وتقود مقاومته.
وتقوم نظرية الإمام الخميني والحالة هذه على تدمير الوسيلة التي حققت الغرض، فالثوة التي تحققت بنظام الاجتهاد والتقليد الحر، أصبح مفروضاً عليها ان تتغير وتخالف طبيعتها لكي تتطابق مع مفهوم "ولاية الفقيه" الذي هو تحويل للحوزة الى جهاز سلطة تنفذ ما يراه المرشد، مع ما يعنيه ذلك حكماً من تغيير حاسم في آلية عملها وفي قدرتها على ان تحتفظ بما كانت تتمتع به من قوة الروابط مع الجمهور.
في المقابل كانت التجربة العراقية، تطورت في ظروف تتميز خصوصاً بقوة حضور القوى العلمانية والعصرية، مما فرض على كل محاولة تجديد لدور الحركة الاسلامية شروطاً مختلفة، ومع انها ظلت ملتزمة الوفاء لتراثها التعددي، فإن قوة التحدي العصري في حيزي السلطة والمعارضة، كان يتطلب منها اقراراً حتمياً بهذه الحقيقة والتعامل معها، ومنذ تأسيس حزب الدعوة 1957 - 1959 والإمام محمد باقر الصدر، يأخذ الحقائق الماثلة وطنياً، كوقائع يتقرر في ضوئها اتجاه عمل التجديد الاسلامي الفكري والسياسي، ولم يكن من قبيل الصدفة ان يكون هو قد افتتح عمله الفكري التأسيسي من خلال "فلسفتنا" و"اقتصادنا" عاقداً الحوار مع العصر وتجلياته الوطنية النافذة عبر الحوار مع الاشتراكية والرأسمالية، في الاقتصاد والفلسفة.
وتمت ترجمة هذا التوجه مع أول فرصة، ترافقت في بداية السبعينات مع تصدر حزب الدعوة العمل ضد السلطة، فحين أراد الحزب وقتها تحديد شكل الدولة التي يرغب في قيامها، قال: "ان من أهم مسؤوليات الحكومة المقبلة، ضمان حقوق المواطنة دستورياً، لإبناء الأقليات القومية والدينية، كالتركمان، والآشوريين، والصائبة، وضمان حقوقهم في المشاركة السياسية والانتخابات، وتخصيص مقاعد في المجلس الوطني تتناسب مع حجمهم السكاني، وضمان حرية العبادة، وممارسة حقوقهم الثقافية، ومنع ممارسة أي اضطهاد ديني أو عنصري بحقهم". وهذا موقف ليبرالي صريح يتجاوز حدود الحق "الديموقراطي" الانتخابي المقر والممارس حالياً في ايران. وفي وقت لاحق وفي ذروة عملية القمع الدموية التي تعرض لها الحزب على يد النظام، أصدر حزب الدعوة "وثيقة التفاهم" المتضمنة دعوة كافة الاحزاب والقوى للعمل المشترك ضد النظام بغض النظر عن توجهاتها العقائدية.
والأخطر من ذلك، وغير المتوقع، حسب كل التقديرات، هو ما حدث لاحقاً، لا خلال الحرب العراقية - الايرانية، حين استمرت المرجعية وأقسام اساسية من تيار حزب الدعوة، تبطن موقفاً مضاداً للحرب ولمن يواصلونها من الطرفين، بل بعد انتفاضة آذار مارس 1991 حين تصدى محمد صادق الصدر لمهمة توجيه وتحويل انتفاضة السخط الى تيار فعل سياسي يستند الى مبدأ التحول السلمي، مما أثار ذعر الأوساط الايرانية المتشددة، فاعتبرت ذلك بمثابة خطر مباشر، ورأت ما يحدث في العراق ممثلاً ب"خاتمي" في ايران وبالسيد محمد حسين فضل الله في لبنان.
ويعرف المتشددون في ايران أكثر من غيرهم ما الذي يعنيه تحقق نموذج التعددية والحوار في موضع مثل العراق حيث النجف. مصدر الاجتهاد، والعاصمة التاريخية للمرجعية، والمكان الأكثر قدسية لدى الشيعة، عدا عن ان ما قد يحدث هنا سيكون تجربة اسلامية عربية مع كل ما للعرب من ميزة فوق قومية، لا تتوفر لسواهم من الشعوب المسلمة، ثم لا بد بعد ذلك من ان تحسب أهمية العراق، وحساسية موقعه التاريخي، ووزنه الاستراتيجي في المنطقة والعالم.
تلقى تيار التعددية والحوار ضربة قاسية بمقتل محمد صادق الصدر، إلا ان واقع العراق الناشئ منذ عام 1991 أفضى الى تبلور عوامل التغيير، ولم يعد هنالك من شيء يمكن ان يحول دون ان يعطل العملية الوطنية، وكان لطول النظام فائدة مهمة، فالسنوات التسع الماضية ساعدت على عودة عملية التغيير الى الداخل، والمعركة تدور الآن بين نهج وطني يرى التغيير الديموقراطي في ضوء الظروف والتوازنات الداخلية، وتيار اعلامي مرتبط بالسياسات والمصالح الاميركية ويخضع للخطة الاميركية المرسومة للعدوان على العراق.
ومع التحديات الكثيرة التي تواجه العمل من أجل التحول السلمي نحو الديموقراطية، فإن الحركة الاسلامية التي تمثل تراث الاجتهاد ومحمد باقر الصدر ومحمد صادق الصدر، يجب ان تعي بأن أمامها مهمة كبيرة على المستويين النظري والعملي، فتجربة هذه الحركة مطلوب اليوم تقنينها، بعد تلك التجارب والتضحيات الغزيرة، ولا طريق يمكن اعتماده سوى نظام الاجتهاد القديم نفسه، فهو ما يزال صيغة صالحة من حيث الجوهر، انما بشرط توسيعه ليتحول الى نظام "اجتهاد موضوعي" يتقرر في ضوء الواقع الوطني والخصائص التعددية للعملية الوطنية العراقية، وبدل "التعددية" أي "التقليد" المحصور داخل المذهب الواحد والدين الواحد، يتطلب واقع العراق اليوم تعددية تقبل "التقليد" الديني والمذهبي والعقائدي.
كما ينبغي استعمال التحريم القاطع في شؤونه بعينها مثل نزوع "التقليد" الشيعي أو السني الكردي أو التركماني القومي أو الماركسي أو الليبرالي، الآشوري أو الكلداني، على أسس تتعارض مع مبدأ الحوار أو تنزع الى السرية بهدف الاستفراد بالسلطة أو بالقرار الوطني.
هنالك عقبات ذاتية ستؤخر الرغبة في اعتماد توجهات في مثل هذا القدر من الحسم، منها. غياب الشخصية القيادية المقررة، وهذا ليس في الواقع نقصاً لا يمكن تخطيه، وهو على العكس قد يكون من بعض وجوهه مفيداً لأن تحديد الوجهة وتضافر جهود القيادة وبلورة هذا الاتجاه على يد مجموعة من الشخصيات قد يكون أكثر تطابقاً في النتيجة مع طبيعة الهدف المقصود، انما هذا هو الطريق المناسب لكسب معركة تجديد التشيع، وتكرار الغلبة لتيار التعددية المتفاعلة بالحوار واعمال العقل، وهذا هو ايضاً طريق الاسهام الحاسم للحركة الاسلامية في التحول الوطني نحو التعددية والديموقراطية في عراق اليوم.
ومع ان حيوية العملية الوطنية، العراقية ستكون هي الحاسمة في تقرير مستقبل هذه الظاهرة، إلا ان التفاعل من منطلق وحدة هذه العملية "اسلامياً" يفترض بداهة جهود تيارات، في مقدمها تيار الرئيس خاتمي، في اعانة الحركة الاسلامية العراقية الحية والمؤمنة بالتعددية والحوار على تجاوز خسارتها، وما تواجهه من تحديات اللحظة، مع الأخذ في الاعتبار، الأهمية الاستثنائية، التي تحتلها هذه التجربة، باعتبارها احتمالاً لتحقق نموذج هو من الناحية التاريخية والواقعية مثال فريد للتعددية، العقائدية والاجتماعية، التقليدية والعصرية، المذهبية والاثنية... وما يتحقق على هذا الطريق في العراق، ينطوي على مغزى تاريخي مختلف تماماً عما يمكن ان يتحقق بفعل أية تجربة اخرى. هل غربت شمس "الأصولية" والديكتاتورية لتبدأ تجربة اسلام متفاعل مع العصر، يسهم في التحول التاريخي نحو الديموقراطية ويكرس مع القوى العراقية الحية مجتمعة، بدل الكارثة المحدثة، اطلالة زمن عراقي، عربي، حكماً واسلامي آخر.
* كاتب عراقي مقيم في فرنسا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.