في 28 نيسان ابريل المنصرم نقلت شاشات التلفزيون اللبنانية صور امرأة ثقيلة الإكتهال، يقتادها رجال الشرطة مكبلة، وينقلونها من مدينة صور، في جنوبلبنان، إلى بيروت، حيث ينتظرها قاضي التحقيق وقسم المباحث الجنائية المركزية. وروت الأخبار التلفزيونية الحادثة التي أخرجت المرأة، المرهقة القسمات، إلى العلن "المرئي" على نحو قاطع، ولا يعدو تحقيق هواجس كامنة وواثقة. فزعمت الأخبار القاطعة أن المرأة يهودية إسرائيلية اسمها، على زعمها، ماري فيكتور فايسمن، في التاسعة والأربعين، ولدت في الناصرة الفلسطينية، وهاجرت إلى الأرجنتين بعض الوقت. وفي المهجر الأميركي اللاتيني خالطت لبنانيين، وصادقت منهم امرأة اسمها آمنة، تقيم في الأشرفية، الشطر الشرقي من بيروت. وأرادت السيدة فايسمن، الناصرية، زيارة صديقتها اللبنانيةالأرجنتينية. فيممت إلى صور، القريبة من موطنها. وحين وصلتها مزقت جوازها الإسرائيلي. ووقفت أمام مبنى الأمن العام في المدينةالجنوبية، وهي تحمل كيسين من الثياب والأمتعة المختلفة يتدليان من ذراعيها ويديها، وتحدق في الأبد المعلَّق، ولعله "الأبد الطيار" الذي أنشده صاحبنا. فلما أطالت الوقوف والتحديق، والكيسان المتدليان على حالهما، شأن الجسم كله، اشتبه حراس مبنى الأمن العام، والاشتباه في مهنتهم وحرفتهم، في نصب الوقوف هذا. فسألوها عمن تكون. فأجابت أنها إسرائيلية. فلم يشك الحرسيون في وقوعهم على صيد أمني سمين وثمين. ولم يشك رؤساء الحرسيين في ما لم يشك فيه الحرسيون. ولم يشك قضاة التحقيق في ما لم يشك فيه من قبل لا المرؤوسون ولا الرؤساء. وتابع الصحافيون قضاة التحقيق على ضعف شكهم هذا. فانتهت الرواية إلى المشاهدين المواطنين، في يوم التوقيف الرابع من الأحد إلى الأربعاء مساء على وجه إماطة اللثام عن شبكة تجسس إسرائيلية تقودها السيدة فايسمان، المتدلية الذراعين والكيسين أمام مبنى الأمن العام في مدينة صور، ويتعقب أفرادها، الذين لن تعتم السيدة وتدلي بأسمائهم، بعض السياسيين اللبنانيين و"رجال المقاومة"، على قول بعض أقنية التلفزيون، جازمة. وأرفق القولُ مزاعمه بالدليل، وهو صور المرأة في قصر العدل، البيروتي المركزي، تتوسط رجال الأمن اليقظين والمتنبهين. وفي اليوم الخامس انتبه بعض الصحافيين إلى حال المرأة: إلى "فقرها"، وشعر رأسها "المصبوغ" بعضه فيما بعضه الآخر "أكلته حقيقة الشيب"، وإلى سنها المخالف الخمسين التي تقر بها، و"تعابير وجه لا يعرفها كثيرون إلا في بعض المختلين العقليين"، بحسب صحافي "السفير" في 29 نيسان. لكن الصحافيين لم يقطعوا في حال المرأة. واقتصر شك المدعي العام التمييزي، رأس المدعين العامين وقاضي الاتهام في الدعاوى السياسية الكبيرة، على هوية الموقوفة. فأمر، بعد استجوابها وتحققه صحتها العقلية "فأجوبتها مركزة ونبرتها كلها ثقة"، بكشف طبيب نفسي عليها. وهو أمر بالفحص الطبي قطعاً لدابر الشك في تابعيتها ونسبتها إلى البلد الذي تدعي الإنتساب إليه. وهذا بعيد بعض البعد من "البناء على مقتضى" الشيء: إذ يفحص عن عقل من يزعم التابعية إلى العدو عوض الفحص عن القرائن على تابعيته" أما الفحص عن العقل فيُتوقع أن يتناول من تظهر عليه مخايل الإنحراف، إذا سُلِّم بجواز الترجمة عن الإنحراف العقلي أو النفسي مخايل على الوجه، على ما ذهب إليه أصحاب مذهب الأعراق. وسوَّغ المدعي العام أمره بالفحص ب"فنون الجنون". وتخلص الصحافي من الحيرة القضائية بإزاء الجنون وفنونه بحمله فنون "التضليل" التي "لا يعرفها أحد" على "الجاسوسية". فذهب إلى أن الجاسوسية فنون، ونسب "تعابير المختلين العقليين" إلى "تدريب" الجواسيس وتضليلهم العظيم. فاجتمع، لبعض الوقت، فنَّان مختلفان ولا يجتمعان، هما فن تضليل الجنون، وهو غير متعمد، وفن تضليل التجسس، وهو متعمد ومقصود. واحتار رجل القضاء ورجل الخبر، وترددا في تسمية الفن البارع والعالي الكعب الذي ينسبان إليه تضليل المرأة المحيِّرة. وخلَّص شقيق المرأة المحتارين جميعاً من حيرتهم الأليمة. فهو لما رأى شقيقته على الشاشة الصغيرة تعرَّفها. فإذا بالسيدة فايسمن الناصرية سعاد نعمة الطرابلسية. وإذا بالجاسوسة المتخفية والمدلة بدلويها وكيسيها، بحيال مبنى الأمن العام، فُصامية تشكو الضعف عن جمع صورها وأخيلتها عن نفسها في هوية واحدة ومجتمعة، وتنوء بضبط هوياتها الكثيرة على مثال متماسك لا يشتط كثيراً في استقبال الكثرة التي تراودنا كلنا، نحن الأصحاء والمستبْقين من الكثرة أقل القليل نتعارف به ونتباهى. ولما كُشف الأمر وذاع، وهو لم يكشف ويذع إلا من طريق الطبيب النفسي الأخصائي، ثارت ثائرة بعض الصحافة. فطعن صحافيون في "الجهة المسؤولة" التي تركت البلاد "تغرق في أخبار هذه السيدة المسكينة"، وتركت "وسائل الإعلام المحلية والخارجية ... تتناقل حكايتها" ولم تتول "لجم التكهنات" "النهار"، في 30 نيسان. وخلصت الصحيفة من مرض السيدة نعمة إلى "مرضنا"، وشخصت مرضنا هذا "توتراً يجعلنا مستعدين لتلقف أية حكاية فنسرح فيها على العمياني سواء صحت أم خابت". والتشخيص الذي يتناولنا، ويتناول مرضنا، قد لا تكون العلة فيه إلا اقتصاره على إدراكنا و"وعينا" واستعدادنا للسرح مع الحكايات وفيها، على قول الصحيفة. فمرضنا، على هذا الزعم، إنما هو ثمرة ضعفنا بإزاء ما يروى ويشيع ويشبِّه لنا الحقيقة. والعلاج، على هذا، هو تقوية المناعة والإمساك عن السرح واليقظة والبصيرة على خلاف العمى. ويعود إلى الجهات المسؤولة، أي إلى الدولة، المبادرة إلى الإجراء المناسب واستباق التصديق، من طريق نشر صورة السيدة، من غير "ديباجة الجاسوسة"، "فتتعرف بذلك أسرتها إليها". والعلاج يجري مجرى الإدارة والشرطة، ويحول دون ظهور ذريعة "مرضنا"، لكنه لا يتطرق إلا إلى ذريعة المرض ومُظْهِرته ومخرجته إلى العلن والعيان. فالمرض الذي توسل إلى الظهور، اليوم، بهذه الذريعة قد لا يعدم ذرائع أخرى، أكثر خفاء وذكاءً، إلى الظهور. وتُسأل المريضة المفترضة، السيدة سعاد نعمة، عن "السبب" الذي حداها إلى رواية هذا الخبر دون غيره. فهي آنست من خبرها هذا قوة على الإقناع لم تأنسها على الأرجح في خبر آخر. والكلام على السيدة نعمة، وعلى ترجيحها رواية على أخرى، كلام مشكل. فهي، في ضوء ما ظهر من أمرها، لا "تنقد" الروايات والأخبار، تعديلاً أو جرحاً، على ما يقول أهل الأخبار والآثار ورجالها. وهذا ما يقوِّي اختراعها الخبر الذي اخترعته، وروت عليه حادثتها المزعومة. فهي روت ما روته إملاءً، إذا صحت العبارة. أما من أملى عليها روايتها، أو ما أملاها عليها، فهو المصدر الغُفل الذي ينزل الروايات المخترعة والملفقة منزلة التصديق، ويهدي الرواة المطبوعين والسيدة نعمة راوية بالسليقة على ما أظهر تصديقها إلى تلفيق ما يلقى القبول، وإلى اطراح ما لا يسوغ قبوله ولا يستسيغه الجمهور. فكأن المرأة الفصامية في غربتها عن دنيا الأصحاء، وعالمهم المضطرب والمعقد، حدست في اللبنانيين، وفي أجهزة أمنهم وقضائهم وصحافتهم ومشاهديهم، انقياداً "فطرياً" لخبر جاسوسية إسرائيلي يتولى الموساد خيوطه، ويربط بين يهودية ولدت في الناصرة، وتحمل إسماً ألمانياً، وبين لبنانية مسلمة هاجرت إلى الأرجنتين، وتقيم في الأشرفية، وتصلح وسيطاً إلى لبنانيين يستخبرون بدورهم عن سياسيين لبنانيين ومقاتلين ويعدون العدة لقتلهم، على ما يجدر بجهاز عدوان العدو. والفطرة هذه إنما تصدر عن صناعة لبنانية يومية تتولى أجهزة الإعلام ترويج مصنوعاتها. فمنذ حسم عروبة لبنان، وعمل السلطات بموجب الهوية التاريخية الجديدة والعريقة، وتصدر المنظمات العسكرية والأمنية الأهلية الحياة اللبنانية العامة السياسية والدعاوية، و"حرب المخابرات" الإسرائيلية "العربية" مشتعلة الإوار. فلا يكاد يمضي يوم إلا ويكشف الستر عن شبكة تعامل مع العدو. وغالباً ما تقوم بتعقب المتعاملين المنظمات العسكرية والأمنية الأهلية، وهي احتفظت بجهازها الأمني، وبمناطقها الأمنية، على رغم قيام الدولة ووحدتها. وآخر شبكة تجسس افتضح أمرها تولت حركة "أمل" فضحها، و"سلمت أفرادها إلى الجيش اللبناني للتحقيق معهم"، على ما تقول "الوكالة الوطنية للإعلام"، الرسمية، في نشرتها المؤرخة في 6 أيار مايو الجاري. وفي اليوم الذي سبقه أوقفت مخابرات الجيش رجلين، من بيصور، البلدة الدرزية الجبلية، اتهمتهما بالإعداد لاغتيال متعامل سابق مع "الجهاز 504" الإسرائيلي. وفي اليوم نفسه كان القضاء العسكري طلب إلى نقابة المحامين إجازة ملاحقة محامٍ وسياسي كتائبي معروف يشك القضاء في علاقته بالدولة العبرية... وهذا غيض من فيض. ومن هذا الفيض بث محطة تلفزيونية أهلية برنامجاً أمنياً أسبوعياً يذيع بعض تحقيقاته على المشاهدين. وتنشر صحافة مأذونة، أهلية، لوائح بأسماء المظنونين والمتهمين والعملاء، من غير رقابة. وغالباً ما تستبق هذه اللوائح أعمال اغتيال أو محاولات اغتيال، معظمها لا يخطئ هدفه وصيده. وسرعان ما تنحرف مناقشة موضوعها مناهج تعليم جامعي، على ما جرى في معهد العلوم الإجتماعية، من الجامعة اللبنانية، إلى "الاشتباه" في أصحاب المناهج أو وضعهم "موضع الشبهة" على ما جاء في بيان "طالبي" صدر عن حركة "أمل"، فاضحة شبكة التجسس أعلاه، وجرح "وطنيتهم". ويرد المجروحون بإثبات "وطنيتهم" و"علميتهم"، معاً وكلاً. ولا يطعنون في جواز الإحتجاج ب"الوطنية"، وهي في لبنان العروبي نسبة عصبية، في معرض مناقشة تتناول التدريس والهيكل الجامعيين. ولعل السيدة سعاد نعمة، الصابرة على تدلية ذراعيها بإزاء مبنى أمن عام، وكيسيها، والمتجلدة على التحديق في أبد معلق، خاله غيرها من نبهاء القوم طياراً، وعلى احتمال أثقال الكثرة المعتملة في نفسها "الشعاع" - على قول قيس بني عامر في نفسه الموزعة -، لعل السيدة حدست في الهواء الذهني الذي نتنشقه كل الحكايات المقبولة والكامنة. فلم تصنع غير إخراج إحداها إلى الرواية والقول والتسليم. * كاتب لبناني