لعل في هذا التشبيه رجماً بالغيب، فنحن نعرف ديغول الرئيس الذي تبوأ مكانته في تاريخ فرنسا الحديث، ولكننا لا نعرف بوتفليقة الرئيس الذي تسلّم مقاليد الرئاسة اخيراً في الجزائر. لكن المسار السياسي للرجلين يتقاطع بشكل ملفت. فكلاهما انغمر في السياسة يافعاً. وكلاهما تبوأ صدارتها في مقتبل العمر. تسلّم ديغول مقاليد الرئاسة في 1945 لكنه ما فتئ ان تبين ان مجال حريته كان مقيداً بسبب ما كان سماه بديكتاتورية الاحزاب، فاستقال ليدخل مرحلة من العزلة الطويلة حتى سنة 1958 حينما صرح اثر الازمات المتتالية التي عرفتها الجمهورية الرابعة بأنه على استعداد اذا نادته فرنسا، للعودة الى واجهة الاحداث بإرساء نظام الجمهورية الخامسة. وخلال فترة العزلة، راقب ديغول الاحداث وكوّن فكرة عن فرنسا، كما كان يقول. وبوتفيلقة الذي غاب عن السياسة من 1978 الى 1994 فكّر هو ايضاً في مكونات الهوية الجزائرية وادرك اهمية الاسلام في شد لحام الدولة الجزائرية. وعلى غرار ديغول الذي استقال في 1946، رفض بوتفليقة عرض الرئاسة سنة 1994، خشية ان يظل رهينة الاحزاب ويبقى مجال حريته محدوداً. كلاهما كان يروم اقتراعاً شعبياً لترسيخ شرعيتهما للاقدام على اصلاحات جوهرية. فرغم ان ديغول كان يتمتع بشرعية تاريخية باعتباره صاحب نداء "فرنسا الحرة" فإنه لم يستطع ان يتنصل من نفوذ الاحزاب، كذلك الشأن بالنسبة الى بوتفليقة الذي يحظى بشرعية تاريخية، الا انها غير كافية في محيط جديد. وكلاهما ذو شخصية قوية نابعة من التجارب والتأسي بنماذج، الاول بشارل موراس، والثاني بشخصية الرئيس الراحل هواري بومدين، كذلك بتصور للدولة وللمجتمع يتجاوز المعالجة التكنوقراطية.، وكلاهما خطيبان مفوّهان. والذين تابعوا حملة عبدالعزيز بوتفليقة لمسوا قوته التعبيرية وجزالة لغته التي تحمل دلائل عبقرية اللغة العربية. كذلك في خطاب التنصيب ذي العبارة الجزلة والتعبير القوي مما يضرب صفحاً عما دأب عليه التقليد من خطب رسمية تكنوقراطية تصاغ في الغالب بالفرنسية وتترجم الى العربية. وقد نضيف عاملاً آخر، وهو انهما يشتركان في معرفة "الخصم". فديغول كان يجيد الالمانية وحارب الالمان وظل دوماً يكنّ لهم التقدير والاحترام. وعبدالعزيز بوتفليقة عاش شرخ شبابه في وجدة المغربية وعرف الطبقة السياسية المغربية قبل ان يرتد خصماً عنيداً للديبلوماسية المغربية. لكن الخصومة السياسية لم تعفِ قط عن التقدير والاحترام لشعب المغرب ونظامه. كان حتى في اللحظات التي لم يستطع ان يكتم عتابه، يشفعه دوماً بآيات الود وظل يوماً متطلعاً الى المستقبل. ثم هناك الظروف الموضوعية التي اتت بديغول وبوتفليقة الى واجهة الاحداث. فديغول تسنم ذروة السلطة في 1945 وفرنسا فاقدة نفوذها من جراء هزيمة فيشي وعدم دعوتها الى مؤتمر يالطا. ومنذ 1946 الى 1958 راحت فرنسا تتخبط في ازمات بنيوية اجتماعية واقتصادية لم تزدها الازمات الحكومية المتتالية الا رسوخاً. وقد ادرك ديغول في عزلته انه لمعالجة الوضع الاجتماعي والاقتصادي المستفحل، علاوة على قضايا المستعمرات او اقطار ما وراء البحار كما كانت تسمى، وبالاخص المعضلة الجزائرية كما كان يطلق عليها، لا بد من مركز قرار قوي لا يتأثر بالاحزاب او بالظرفية. والجزائر التي كانت ذات شعاع على مستوى العالم الثالث بفضل حربها التحريرية ودعوتها لنظام اقتصادي عالمي جديد، دخلت منذ 1988 مرحلة اهتزاز، ازدادت استفحالاً بعد توقيف المسلسل الانتخابي في كانون الثاني يناير 1992. كان وضع الجزائر على مستوى القيادة شبيهاً بوضع فرنسا ابان الجمهورية الرابعة، لم يستطع ان يفرز قيادة قوية تعيد السلم، وتعقد المصالحة الوطنية، وتعالج المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية البنيوية. هل تسعفنا هذه الخلفية في استجلاء سبل المستقبل؟ كانت اولى المشكلات العالقة بالنسبة الى ديغول هي ما كان يسمى بالمعضلة الجزائرية كان يدرك قوة "اللوبي الاستعماري"، لكنه في الوقت ذاته كان يدرك المطالب المشروعة للمجاهدين الجزائريين، كذلك تحول مجرى التاريخ، ولذلك حينما اطلق نداءه التاريخي "انني فهمتكم" فقد شفعه بدعوته الى "سلام الشجعان". واستطاع ذلك - وهو ما لم يكن ميسراً - لانه لم يكن رهينة الاحزاب. واول الملفات الكبرى المطروحة على الرئيس بوتفليقة هو المصالحة الوطنية وايجاد حل لما قد نسميه بالمعضلة الاسلامية. ويكاد الوضع ان يكون شبيهاً بالقضية الجزائرية بالنسبة الى ديغول، فهناك "لوبي" يعارض الحوار مع الاسلاميين. ومهما يكن من امر فان الاسلاميين جزء من النسيج الاجتماعي والثقافي للجزائر لا يمكن انكاره او التغاضي عنه. فهل يوفق الرئيس بوتفليقة الى حوار الشجعان؟ وهو الذي يتوفر على حظوظ كبيرة، منها شرعيته الشعبية التي تؤهله لفتح سبل الحوار مع الاسلاميين وتجاوز المراكز المعارضة للحوار. ثم هناك الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي بسبب عدم فاعلية المؤسسات العامة واستفحال البطالة. واذا كان ديغول استطاع ان يعالج الوضع الاقتصادي والاجتماعي بسلك سبل التأميم، فإن على الرئيس بوتفليقة، ان يسرع وتيرة التخصيص. وبوتفليقة الذي درج في احضان الاقتصاد الموجه، أدرك ان هذا الخيار عفا عليه الزمن، ولم يعد يستجيب للسياق العالمي الحالي. وقد حمل خطابه خلال الحملة الانتخابية تصورات جديدة لمعالجة الازمة الاقتصادية والاجتماعية وذلك بتشجيع القطاع الخاص وايلاء القطاع الزراعي اهمية كبرى، وهو المتضرر الاكبر من خيار الصناعة المصنعة الذي كان سلكه الرئيس الراحل هواري بومدين. اما ثالث الملفات الكبرى التي يتعين على الرئيس بوتفليقة معالجتها، وهو الى حد ما شبيه بذلك الذي طرح على ديغول، فهو مكانة الجزائر الدولية. اذ ان مكانة دولة ما على الصعيد الدولي هي انعكاس لوضعها الداخلي واستمرارية له. والرئيس بوتفليقة الذي قاد ديبلوماسية الجزائر في ظروف متميزة وبوأها مكانة دولية، يدرك ان العالم تغير وان الاشعاع لا يتحدد من خلال الخيارات الايديولوجية. لقد استطاع ديغول ان يعيد لفرنسا مكانتها الدولية بالتعاون مع من كانت فرنسا تنظر اليهما كخصمين تاريخيين، وهما بريطانيا والمانيا. واذا كان عارض انضمام بريطانيا الى السوق الاوروبية المشتركة فإن ذلك لم يثنه عن الدخول معها في مشاريع اقتصادية مشتركة، ان مكانة الجزائر الدولية تتحدد من خلال تعاونها مع محيطها المباشر، وبالاخص المملكة المغربية، لتذليل العقبات، وحل المشاكل العالقة. ان نجاح الرئيس بوتفليقة هو نجاح للجزائر وللمنطقة. فالسياق الدولي الجديد يستلزم تعاملاً جديداً. وصفات الماضي وقوالبه لن تفيد لمواجهة المستقبل. لا بد من خلق وابتكار وكذلك من عزم واقدام. * رئيس "مركز طارق بن زياد" للدراسات والابحاث في المغرب.