يأتي اجتماع قادة دول مجلس التعاون الخليجي اليوم وسط ارتياح كبير تعيشه الدول الأعضاء نتيجة للانفراج الذي حدث في أزمة أسعار البترول والتي تحسنت منذ اتفاق المنتجين من داخل منظمة الدول المصدرة للنفط أوبك ومن خارجها في آذار مارس الماضي، بما يتراوح بين ستة وسبعة دولارات للبرميل، الأمر الذي يعني التقليل من الضغوط المالية التي تعيشها المنطقة، خصوصاً إذا استمر تحسن أسعار النفط. إلا أننا أيضاً أوضحنا أن المتطلبات اللازمة للاقتصاد الخليجي كبيرة لحل العديد من المشاكل الاقتصادية التي تراكم بعضها نتيجة للانخفاض الكبير الذي طرأ على الانفاق الحكومي في دول المجلس، ونتيجة أيضاً للتراخي في تبني الحلول اللازمة للقضاء على هذه المشاكل. وناقشنا أيضاً بعض أولويات الأجندة الاقتصادية لمجلس التعاون في هذه المرحلة من تاريخه، وذكرنا أن إعلان الاتحاد الجمركي هذه السنة يمثل أهمية قصوى تجاه تفعيل العمل الخليجي المشترك، وأنه لا بد من تدخل القادة في اجتماع كانون الأول ديسمبر المقبل لتحديد نسبة التعرفة الجمركية الموحدة، خصوصاً ان ترك مسألة تحديدها للخبراء يعني عملياً تأجيل الاعلان، بل وأيضاً التشكيك في امكانية بدء تطبيق الاتحاد الجمركي بحلول السنة 2001 عما أعلن عن ذلك في العام الماضي. ونناقش اليوم بعض الأولويات الأخرى في الأجندة الاقتصادية لدول مجلس التعاون، فنجد ان من أولويات العمل الخليجي المشترك في هذه المرحلة هي المواجهة الجماعية لمشكلة البطالة التي بدأت تتفاقم في دول المجلس بكل تناقضاتها. ففي الوقت الذي تستضيف دول المجلس أكثر من ثمانية مليون عامل غير خليجي في مختلف الوظائف، نجد أن نسبة البطالة الخليجية تراوح تقديرياً ما بين 4 و20 في المئة. كما أن هذه النسب مرشحة للارتفاع في ظل معدلات النمو السكاني المرتفعة في دول المجلس والتي تراوح ما بين 5.2 و5.3 في المئة وفي ظل كون نسبة الشريحة السكانية الشابة تزيد على 50 في المئة، الأمر الذي يمثل تحدياً كبيراً لكل دول المجلس لما لتفاقم البطالة من آثار سلبية اجتماعية واقتصادية. ومن دون الدخول في تفصيلات هذه المسألة المهمة، نرى أن العمل الجماعي لحلها قد يكون أكثر جدوى من أن تتصدى لها كل دولة من دول المجلس بصورة منفردة وذلك على النحو التالي: إعطاء أولوية في التوظيف لمواطني دول المجلس في حال عدم توافر الكفاءة المحلية، وتسهيل دخولهم وإقامتهم ومعاملتهم معاملة المواطن في ما له من الحقوق والواجبات. محاولة رفع كلفة الاستعانة بعامل غير خليجي، بدرجة تحفز القطاع الخاص الخليجي تدرجاً على أن يعمل على توظيف الخليجي متى ما تساويا في مستوى الكفاءة والمؤهلات. إلا أن سلوك هذا البلديل لا بد وأن يعامل بحذر خشية التأثير في أداء القطاع الخاص ورفع كلفة انتاجه، خصوصاً في ظل عدم وجود البديل الخليجي المؤهل. وضع برنامج تدريب مشترك للخليجيين، ويتم ذلك عن طريق تمويل خليجي مشترك من الحكومات والقطاع الخاص، ويهدف إلى تحسين كفاءة المعروض من العمالة الخليجية وبناء المهارات اللازمة وحب العمل واحترامه. ويستفيد هذا البديل من مزايا الاستخدام الواسع ويمكن ربطه بجامعة الخليج في البحرين كهيئة اشرافية توفر له الكفاءة التدريبية وتخطط لبرامجه ليغدو أفضل برنامج تدريبي من حيث نوعية المستفيدين وعددهم. تبني سياسات تعليمية مشتركة تعالج القصور الكبير الذي تعيشه أنظمة التعليم وسياستها في دول المجلس، وتوجيهها لتتواءم وحاجات سوق العمل الخليجي. أما الأولوية الأخرى في العمل الخليجي الاقتصادي المشترك فتتمثل في تفعيل الدور التفاوضي لدول المجلس في المفاوضات الاقتصادية والتجارية الدولية. ففي ظل الانفتاح العالمي، فإن هنالك العديد من المفاوضات الدولية الجارية في مختلف المجالات، ويعني عدم المشاركة فيها بصورة فعالة، فرض ما يتبناه الآخرون علينا سواء أردنا أم لم نرد، ومن الأولى المشاركة في صياغة مختلف الاتفاقات الدولية بما يضمن مصالحنا لا أن نكون متلقين لها. التجارة الدولية ويأتي على رأس هذه المفاوضات الدولية ما يتعلق منها بمنظمة التجارة الدولية، إذ ستبدأ جولة جديدة من المفاوضات في تشرين الثاني نوفمبر المقبل في مدينة سياتل في الولاياتالمتحدة، وهنالك العديد من المواضيع التي تهم الدول النامية بصورة عامة ودول المجلس بصورة خاصة، مطروحة على مائدة هذه الجولة من المفاوضات. وإذا ما عرفنا أن دول المجلس جميعها أعضاء في منظمة التجارة الدولية عدا السعودية وعمان، واللذين يحضران بصفة مراقب، وهو الأمر الذي يعني عدم قدرتهما على التصويت فقط، في الوقت الذي يمكنهما المشاركة في المفاوضات الدائرة، وهو ما تتعارف عليه مختلف جولات المفاوضات الدولية، خصوصاً إذا ما عرف أن الدولة ذات صفة "مراقب" قد تقدمت بطلب الانضمام، وبالتالي فمن حقها المشاركة في التفاوض لما ستقبل به لاحقاً من قواعد دولية جديدة في التعامل التجاري الدولي. ونجد ان المرحلة المقبلة من المفاوضات لا تحتمل الارتجالية في الأداء وعدم تفرغ الوفود الممثلة لدول المجلس، و/أو التقاء وتعارف أعضاء وفود البلد الواحد في مقر الاجتماع. ولعل من أهم المواضيع المدرجة في الجولة الجديدة من مفاوضات منظمة التجارة الدولية موضوعين أساسيين هما: 1- إدراج الاعتبارات والمقاييس البيئية في التجارة الدولية بما يسمح للدول الصناعية التمييز ضد مستورداتها من السلع التي لا تلتزم بالتشريعات البيئية المماثلة، بما في ذلك فرض الضرائب أو الرسوم الجمركية الاضافية على وارداتها من هذه السلع. ونجد أن البترول والغاز الطبيعي، وهما السلعتان الرئيسيتان اللتان تصدرهما دول المجلس، سيكونان محور هذه الاجراءات لو تم تبنيها في الجولة الجديدة من المفاوضات، وما لم تشارك دولنا بفعالية في تبيان التطبيق التحيزي القائم في الدول الصناعية ضد البترول على سبيل المثال ومحاباة الفحم والطاقة النووية واللذين تفوق أضرارهما البيئية ما ينتج من أضرار من جراء استخدام البترول، فإن المتوقع هو استمرار هذا الاتجاه التمييزي، الأمر الذي سيؤثر بشكل سلبي في صادراتنا البترولية. وفي تصوري، فإنه من خلال التنسيق بين دول المجلس وبقية الدول المنتجة للبترول من الدول النامية، فإنه يمكن اسقاط هذا الموضوع من جدول أعمال الجولة المقبلة من مفاوضات منظمة التجارة الدولية استناداً إلى حجة قوية وأساسية تتلخص في أن هنالك اتفاقات دولية في مجال حماية البيئة، وتمكن مناقشة هذا الموضوع في إطار هذه الاتفاقات. 2- ظروف تشغيل العمال، وتدفع الدول الصناعية هذا الموضوع للتأثير في الكلفة المنخفضة للعمالة في الدول النامية عن طريق وضع قيود على أعمار المشتغلين ومعدلات أجورهم وظروف عملهم. وعلى رغم ان هذا الموضوع قد لا يؤثر بشكل كبير في دول المجلس، إلا أنها مسألة تهم جميع الدول النامية والتي يمكن التنسيق معها في سبيل الدعم المشترك للمواضيع ذات المصلحة المشتركة. ولا بد لدول المجلس في هذا المجال أن تؤيد الحجة المقدمة من الدول النامية بأن موضوع العمالة وظروف تشغيلها هو من اختصاص منظمة العمل الدولية، ولا بد من عدم حدوث ازدواجية في العمل، وعليه فلا بد من عدم طرح هذا الموضوع على جدول الأعمال. وفي حال إصرار بقية الدول على ادراج هذين الموضوعين، فإنها قد تكون فرصة مواتية لتفعيل ما تم اتخاذه من قرار للقادة الخليجيين العام الماضي من ضرورة إدراج البترول في مفاوضات التجارة الدولية بما يضمن عدم التمييز ضده. وما هذه الأمثلة التي أوردناها إلا للتدليل على حيوية وأهمية المفاوضات الدولية في المرحلة المقبلة ومدى تأثيرها في دولنا من خلال القوانين والقواعد الدولية التي يتم تبنيها سواء في إطار منظمة التجارة الدولية أو في إطار مختلف الاتفاقات الدولية الأخرى والتي قد نفرد لها مقالاً منفصلاً. ويمكن في هذا المجال اقتراح تشكيل فرق متفرغة تماماً تسند إليها المواضيع التي يجري التفاوض عليها دولياً وترتبط بالأمانة العامة لدول المجلس، تتابع مستجدات المفاوضات وتقوم بالتفاوض و/أو تزويد الوفود من دول المجلس بمختلف المواقف المطلوب تبنيها وعقد اجتماعات تنسيقية لها وبصفة دورية. وهذا بالطبع يهيئ المجال للتفاوض باسم واحد متى ما تم تحقيق مرحلة التكامل الاقتصادي الخليجي، وهو ما يقوم به الاتحاد الأوروبي حتى قبل اتفاقية ماستريخت التي أعلن من خلالها قيام الوحدة الاقتصادية الأوروبية. من أولويات الأجندة الاقتصادية أيضاً وضع استراتيجية اقتصادية لمجلس التعاون تتحدد من خلالها متطلبات المرحلة المقبلة، وما هو تصورنا لوضع الاقتصاد الخليجي من حيث امكانيات إحداث التنويع الاقتصادي المطلوب للتقليل من التأثيرات السلبية التي يعاني منها نتيجة لتقلبات سوق البترول الدولية، وامكانيات التفعيل المشترك لدور القطاع الخاص الخليجي وتبني بعض السياسات التي تعمل على تقليل العجز الذي تعاني منه موازنات حكومات دول المجلس، وإعادة هيكلة الاقتصاد الخليجي عن طريق تبني بعض الاصلاحات الاقتصادية الضرورية وبطريقة تكفل تحقيق العدالة الاجتماعية، وتحقيق أهداف ترشيد الانفاق الحكومي وترشيد الاستهلاك والتوعية بضرورات القضاء على الانفاق البذخي، وتحقيق استغلال أمثل للموارد الاقتصادية المتاحة. وختاماً، فكما نرى فإن الأجندة الاقتصادية لدول مجلس التعاون مليئة بالمواضيع منها ما تأخر الحسم فيه، ومنها ما هو عاجل تبنيه ومنها ما هو ضروري لبناء كيان اقتصادي خليجي يضاهي الكيانات الاقتصادية العالمية الأخرى. وما هذه الأمثلة التي أوردناها هنا إلا بعض هذه المواضيع التي تتطلب دراسة شاملة وجادة وتحديد أهداف زمنية ورقمية يعمل في إطارها خبراء دول المجلس. كما نرى أن المرحلة المقبلة دقيقة وتتطلب مزيداً من الجهود وتبادل المعلومات والخبرات لتحقيق الطموحات القائمة بوجود مجلس التعاون مثالاً للتكتل الاقتصادي الدولي الفعال. * اقتصادي سعودي.