يضيف الشعر السعودي الجديد من خلال نماذجه الشابة، أفقاً يزدان بألوان ورؤى، تعكس أطياف مشاهدات العين في تجوالها بين ما هو حقيقي وواقعي، وبين ما هو سحري يهبط من حدقة المخيلة وتشعباتها الخصبة. إنه شعر يقدمه عدد من الشعراء الشباب من خلال سلسلة إصدارات ل"دار الجديد" اللبنانية، وفيها إسهامات لكل من: حمد الفقيه "نقف ملطخين بصحراء"، وإبراهيم الحسين "خشب يتمسح بالمارة"، وأحمد كتّوعة "كرة صوف لُفّت على عجل"، وعيد الخميسي "كنّا"، ومحمد حبيبي "إنكسرتُ وحيداً"، ويوسف المحيميد "لا بد أن أحداً حرّك الكراسة"، وسعد الهمزاني "جدّ سابع للصمت"، وفوزية أبو خالد "ماء السراب"، وأحمد ابراهيم البوق "أحاميم"، وأحمد الملاّ "خفيف ومائل كنسيان". أبرز ما هو مشترك بين شعراء هذه السلسلة التسعة، هو صدورهم عن براءة الريف والبادية من قسوة المدينة وفوضى العواطف فيها. إنها لغة مشتركة في كونها الأهم بين أحزانهم وهمومهم، وإن يكن لكل واحد منهم بعد ذلك طريقته في الإفتراق والإستقلال عن زملائه. هذا الإغتراب يعبّر عنه حمد الفقيه في مجموعته "نقف ملطخين بصحراء" في صورة دخول مباشر، يضعنا من فوره في اجواء ما يعيشه الشاعر: المدن إذ أمعن فيها تقشعرّ روحي وعاطفتي كغبار أليست تملأني عواءً كل ليلة؟ والفقيه إذ يكتب برغبة الإنتماء إلى الريف والبادية، يجد قصيدة أخرى له، تستعير مفرداتها ورموزها من تلك البيئة، حتى وهو يسجّل هواجسه الفردية واغتراباته الروحية: فرس رغبتي هل أضع جرساً من مطر في عنقه لتتبعني الخرافات إلى نومي ناعمة كالرفيف تشفّ قصيدة حمد الفقيه عن رغبة لا تتوقف في البوح بهموم وجودية، في مواجهة العالم المحيط، وهو يكتب شغوفاً بالصورة الشعرية التي تتبعها او تتوالد عنها صور أخرى في ما يشبه قصيدته رسم لوحة لها اطارها العام كما لها تفاصيلها الصغيرة وجزئياتها المعبّرة: هل التمس وجهي في غفوة المرآة هل أمسك بأطراف رغبتي ليتسع رأسي كثقب في السماء طيف امرأة يسيل على زجاج نافذتي كانت على الماء ناراً من فطنة رغبتي وذكرى ضلعي الآثمة لا أعرف إذا ما كانت "نقف ملطخين بصحراء"، هي مجموعة حمد الفقيه الشعرية الأولى، ولكن القصائد التي ضمتها هذه المجموعة تتجاوز بوضوح كبير ما في التجارب الأولى من تلعثم خجول، إذ نجد أنفسنا أمام شاعر يستفيد من منجز قصيدة الحداثة ويملك موهبة تستقصي ما في الحدقة الشعرية من إمكانات استبصار الواقع وإعادة تركيبه من جديد في سلاسة ودفء. أما ابراهيم الحسين، صاحب "خشب يتمسح بالمارة"، فقد صدرت له من قبل مجموعة شعرية بعنوان "خرجت من الأرض الضيقة" عام 1992، وهو هنا يقدم ما يشبه حوارات شعرية مع الواقع المحيط، لا تخفي في كثير من الأحيان شجنها وحزنها، الذي تعبّر عنه بجمالية فائقة هذه القصيدة القصيرة: بلا رفق .. تزيح ستارة تستمع الى صوت انفتاح نافذتك الى افكار سود تسجح بين الألومنيوم عندما يكون الصبح قد حمل سحائبه البيض تلك المائلة الى الأصفر علق غباراً خفيفاً وتدلّى إبراهيم الحسين، يتعامل في قصائده مع المكان باندغام ذاتي يكاد يحيل المكان الى ما يشبه مكاناً وزماناً في الوقت ذاته، او لنقل الى ما يجعل من المكان حاضنة للهواجس، ومرآة تخطر في عمقها وجوانبها تفاصيل كثيرة من هذه الهواجس مختلفة بالأفكار والرؤى وحتى التمنيات: ليست ضوضاء مياه الساكنين أسفل منك او حشرجة أبوابهم ليس هدير السيارات المتباعد في شوارع غير بعيدة ليس التلفزيون في حجرة مجاورة أو ضوءاً أخضر خافتاً جداً هذا الاسترسال في تقليب مفردات المكان وأدوات تكوينه، نجده يأخذ صيغته الشعرية المشحونة بالتوتر، والمنسوجة في بساطة لا تخلو من حرفية عالية تمنح القصيدة وهجاً وتألقاً. ان تجربة ابراهيم الحسين في هذه المجموعة الجديدة "خشب يتمسح بالمارة" هي شهادة الشاعر على ازدحام المكان وافتقاده المستمر الى دفئه، وحاجته الدائمة الى الأنسنة، وهي شهادة لا تقف عند حدود محاورة المكان، ولكنها تتجاوز الى اعادة وصف اللحظة التي تتجزأ، ولكنها في تجزّئها تظل حجر الحياة: أنهض أزيح الستائر قليلاً حتى أرى انفراط قضباني انطلاق حيواناتي توغل الغبار الهائل عالياً الظلال تهوي ثقيلة على الورقة رويداً تتكاثف الدكنةُ حيث يستحيل السير والحسين، إذ يكتب ملتفتاً الى ما يحيط به من جزئيات، يتجاوز ذلك في قصائد أخرى اكثر ذاتية، وأشد تكثيفاً، تصوّر بجمالية ويسر آسر معاناة الشاعر: في صدر الشاعر تتنامى الفكرة بعد حين من الألم تخرج أغصانها ممزِّقة وجهه وفي العموم تذهب قصيدة ابراهيم الحسين الى تخوم الرؤية الوجودية، في احتفالها بمشاهد العيش العادية، واستقصائها لصور هذه المشاهد كما تندلع من المخيّلة، لا كما تقع في الواقع، وهو احتفال نراه يعقد مقارنات شعرية شديدة الحساسية، بين مشهد على درج المنزل، ومشهد آخر يقابله، ولكن في دهاليز الروح: بينما أعمال تلميع البلاط تقوم بها نسوة خلف الأبواب لا يظهر منهن غير ماء عكر ينخرط فوق العتبات يترنح - بعد ذلك - على الاسفلت أدير في هذا الليل مفتاحاً فيما أغنيتي تتدفق خافتة طاردة كل قذارات الروح بعيداً من ذلك يكتب أحمد كتّوعة شغوفاً برغبة لا تحدّ، في القصّ .. في سرد حكاياته الشعرية على آخر. إنه توق الشاعر الى تلافي الوحدة، من خلال اعادة بعثرة تفاصيل أحداث، وجزئيات حكايات - لعله بذلك يجد الراحة او ما يشابهها. أحمد كتّوعة في مجموعته الشعرية "كرة صوف لُفّت على عجل" يختار عامداً سياقات سردية، ولكنه يزجّها في التباسات شعرية، ذات إهاب طلق، يتمرد على أي تقليدية، ويحاول سهولة الوصول، فيقع عليها في أغلب الأحيان: "بينما تبرد أحلامك القاسية بليلٍ معدني. بعد ان دحرجك النأي الى زاوية في سرير يخلو كثيراً من حمامة تفقّس ضحكاتها تحت الشراشف. كم يتوافد عسس الغبار ولصوصه على البساط فلا تملك غير ان تراقبهم فرداً فرداً وهم يدخلون بصولجاناتهم وأحذية خفيفة شاهرين الجفاف". بين زملائه جميعاً، يبدو أحمد كتّوعة، مسكوناً برغبة في إطلاق الحرية لمونولوجه الداخلي، الذي يلتزم القصّ، ولكنه يشفّ في الوقت ذاته من خلال إقحامه في صورة العالم المحيط، تلك التي يعيد الشاعر تكوينها، ويعطيها في كل مرة ملامحها وألوانها المنحدرة من لحظة نفسية - اجتماعية تتبدل - وقد تتناقض في سيرورتها - ولكن تظل باستمرار لحظة ارتطام كبرى بالمألوف، الذي صار مألوفاً من كثرة تكراره، وإن يكن في الحقيقة - وكما يمكن ان ترصده بجدارة حدقة الشعر - تراجيديا من هول حياة القرن العشرين في لمعانه الأخير. "كرة صوف لُفّت على عجل"، هي في الأغلب مجموعة أحمد كتّوعة الأولى وفيها نعثر على لقطات شعرية خاطفة، يكتبها الشاعر بتكثيف شديد، يتجاوز التكرار والثرثرة وينحيهما جانباً، مبقياً على صفاء الشعر: لن تطال حلمة السقف بعيد كلما جلبت سلماً تغابى أما عيد الخميسي فإن مجموعته المعنوَنة "كنّا" تزدحم بغناء حزين يفتح نوافذ وأبواب الروح على مصاريعها، كي ينهمر بكاؤها. إنه شعر يعشق سهولة البوح، ولكن دون استسهال، بل من خلال توحّد اللحظة الروحية المأزومة مع بلاغة البنائية الشعرية، في قصائد تبحث عن كينونتها في الصورة التي يمكن لها ان تضعنا في مشهد متكامل، مستفيدة من إمكانات الدراما، أو لنقل من بعض مفرداتها، حيث التصعيد هو مفتاح الوصول الى ذروة ما تدفعنا اليها قصيدة عيد الخميسي، وتتركنا في مواجهتها: هذه الضلوع غصون كنت جرّدتها من وريقاتها نحنحات غريب طرقات أناس نسيتهم يخصفون دماً شهقة قلّما قلتها دمعة لم أصعّد خطاي لها وأصابع يوم يموت إنتباه عيد الخميسي الأهم هو الهاجس الذاتي، الذي يقدر الشاعر على رصده وتجزئته في صور شعرية، تنزّ من حوافها اللوعة. لنتأمل مثلاً هذه القصيدة - اللقطة، وما فيها من تحديق: أي متى تنتظر أي شجيرات في البال تظللني ... حتى الماء يرجف انه الكتاب الشعري الأول لعيد الخميسي، ومع ذلك يمكن القول، انه تجربة تقدم لوعة ناضجة، وتضمر نضوجاً اكبر، تعدنا به قصيدة من مثل "إلتذاذ"، وفيها إنشاد حزين ومتوتر، وبلغة شعرية تعصف بكل ما يمكن أن يمنح الشعر تدفقاً وألقاً: ليس اكثر من رعشة في رذاذ يمسّ جداراً سيجفل، سهو الظهيرة قمصان بادية نفقت أو نهر يعرق وأظافر تكشط صخرة نار مهوى أو شج في صحراء الأنفاس ... وتيه قطيع أعمى قصائد عيد الخميسي تدفع لإعادة طرح السؤال القديم - المتكرر، عن علاقة الشعر بالمعرفة، وهو سؤال يجيب عنه شعراء الحداثة دوماً، من خلال قصائد تحتفل بإثارة الأسئلة، أكثر من اهتمامها بالبحث عن إجابات، في عالم يبدو فيه اليقين شديد النسبية، وتبدو الإجابة الواثقة، مجرد مغامرة خطرة، إذ نجد أنفسنا هنا إزاء قصائد تعيد قراءة الواقع المحيط من خلال مواصلة إثارة الأسئلة المتعلقة به. الخميسي في هذه المجموعة يثير بدهشة الشاعر أسئلة الوجود، وما يتصل بها من تفاصيل .. من مشاعر إنسانية تواجه القسوة في عالم تغمره الفجيعة. الشاعر محمد حبيبي، إختار منذ العنوان الذي تصدّر مجموعته الشعرية الأولى، أن يكتب من قاع اللوعة ومنحدرات الأسى. ففي مجموعته "إنكسرتُ وحيداً"، نطالع قصائد تتوغل في الحزن الإنساني، والوحدة، بلغة مباشرة، فيها الكثير من لغة الحياة اليومية والتي تشابه بوحاً سلساً، يتعامل مع الصورة الشعرية المشغولة من مفردات يعيشها الشاعر ويعبّر عنها من دون تكلّف. قصائد محمد حبيبي لا تبحث عن حداثتها في تركيبية شعرية ما، ولكنها تتقدم الى هذه الحداثة من خلال القبض على اللحظة الشعرية الحيوية، في ارتباطها بما في الحياة ذاتها من حيوية: تعودين كالطيف من لحظة شاردة أفتش عنك الجيوب أبعثر كل الحقائب كل الخرائط فيفجؤني سمتك القروي تخبئه شارة البوصلة يكتب محمد حبيبي حكايات شعرية خاطفة، تستعيد مشهداً من حياة الطفولة، تذهب إليه بألق الشعر وبهائه. نرى ذلك في قصائد مثل "تينة": كان في بيت جدي تينة أقبّل أغصانها مرة وأجرحها خفية ليسيل الحليب البهيّ على جذعها فأبكي على اثنين أبكي على بيت جدي على الطفل في داخلي يختفي وفي العموم، تحمل قصائد "انكسرت وحيداً" لمحمد حبيبي رنين أسى، وشيئاً من استرجاعات تغص بها روح الشاعر، في لغة شفافة، مفعمة بالحنين والشجن وتتماز بصور شعرية سهلة، وإن تكن ذات جاذبية. العدد: 13180 الصفحة: 17 * تنطلق هذه القراءة النقديّة من الكتب الشعرية التي أصدرها الشعراء السعوديون الشباب عن دار الجديد تباعاً. وقد شكّلت مناخاً شعرياً يمكن من خلاله رصد الحركة الشعرية الجديدة في السعودية.