الكتاب: التاريخ والسير. المؤلف: د. حسين فوزي النجار. الناشر: الهيئة العامة لقصور الثقافة - القاهرة 1998 يُعد هذا الكتاب بمثابة بحث في علاقة السير والتراجم بالتاريخ، لذا سنجده يتناول أفكاره بطريقة علمية مباشرة تتميز بالدقة والبساطة. وكما يتضح من العنوان، يقوم هذا البحث على محورين رئيسيين التاريخ والسير، ويتناولهما المؤلف بامتداد قسمين: الأول بعنوان "التاريخ بين الماضي والحاضر" ويُركز على "التاريخ" بوصفه فترة زمنية تتسم بمجموعة من السمات والمتغيرات، وبوصفه المدونة التي تحفظ الأخبار والأحداث والشخصيات. ويتكون هذا القسم من خمسة فصول قصيرة "ما هو التاريخ، البطل والسيرة، العرب وتاريخ السير، السير في التاريخ الحديث، الزمن والسيرة". أما القسم الثاني "السيرة بين الأدب والتاريخ" فيركز على "السيرة" بوصفها قصة إنسانية وتاريخية، وعلاقة السيرة بالزمان والمكان وكذلك علاقتها بالوقائع التاريخية. ويتكون هذا القسم من خمسة فصول قصيرة "السيرة قصة تاريخية، الزمان والمكان، الفرد والواقعة التاريخية، البطل في التاريخ، السيرة قصة إنسانية كما هي تاريخية". ويبدأ المؤلف كتابه بتساؤل عن ماهية التاريخ، ولا يهدف من ذلك استعراض التعريفات المختلفة للتاريخ، وإنما يشير الى ثلاثة منها - فقط - مُتخذاً إياها مدخلاً للوصول الى فكرته الرئيسية. وتجتمع هذه التعريفات على أن التاريخ بمثابة مدونة إنسانية تهدف الى الاتصال والاقتداء. فيرى "هيرنشو" أن التاريخ بمثابة مدونة العصور الخوالي وكتابها الحافظ لأخبارها، أو هو التدوين القصصي لمجرى الأحداث العالمية كلها أو بعضها. ومن قبله عَرّف ابن خلدون التاريخ بأنه "فن يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم والأنبياء في سيرهم والملوك في دولهم وسياستهم حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لِمَنْ يرومه في أحوال الدين والدنيا". ويأتي التعريف الثالث على لسان ربة التاريخ والأساطير اليونانية بقولها: "إني لا يند عني شأن من شؤون الإنسان". إذن - التاريخ - هو جماع أحوال البشر، وهو دائم التجدد لأن الإنسانية ترتبط بماضيها ارتباطاً وثيقاً، والإنسان هو صانع التاريخ، لذا يأتي على هيئة دراما مسرحها الزمن، وتتجدد الصور والمناظر والشخوص والأحداث، ولكن يبقى الإنسان هو الإنسان ومعركته خالدة ما بقي مع الزمان والحياة. ولهذا تحتل السير والتراجم في مدونة التاريخ مكاناً مرموقاً، لأن الأصل في التاريخ هو إدراك الإنسان لحقيقة وجوده الاجتماعي، والأصل في السيرة هو البحث عن الحقيقة في حياة إنسان فذ والكشف عن مواهبه وأسرار عبقريته من ظروف حياته والأحداث التي واجهها، والأثر الذي خلفه في جيله. التمثيل الدرامي وتُعَد السيرة هي التمثيل الدرامي لكل ألوان التاريخ الذي يسمح بتقديم الأحداث والقيم التاريخية المجردة من خلال شخصيات وعلاقات وصراعات، تضفي على التاريخ البهجة وتقربه الى النفس الإنسانية باستثارة غريزة حب الاستطلاع لمعرفة ما جرى. وقد تطغى السيرة على التاريخ أو العكس. وقد يرى البعض أن عظماء الرجال هم من يستحقون تدوين سيرتهم التاريخية، بينما يرى آخرون أن السيرة التاريخية هي إحدى سمات التفكير التاريخي البدائي. وفي جميع الأحوال: لا تحتل السيرة مكانها الحقيقي في مدونة التاريخ ما لم تكن هي نفسها تعبيراً عن الحقيقة التاريخية التي تجمع بين البطل والقوى الاجتماعية التي تتجاوب معه وتتبعه الى الغاية المنشودة. وعندما يتناول المؤلف بحث مسألة "تاريخ السير" يبدأ بإيضاح أن "حركة الإحياء الكلاسيكي" ليست هي التي أوحت وحدها - كما هو شائع - بالعناية بدور البطل في التاريخ، بل كان تأثير العرب فعالاً في تطوير هذا المجال، وتعد كتابة "السيرة النبوية" بمثابة أول عمل من أعمال التدوين التاريخي يقوم به العرب، وذلك استجابة للحاجة الماسة إلى معرفة سيرة الرسول العربي وحياته. ولقد بلغت كتابة السير والتراجم على يد العرب ما لم تبلغه على يد الأغريق والرومان، فأرخوا للمدن كما أرخوا للإعلام. ومثال على ذلك: كتاب "ولاة مصر وقضاتها" للكندي، "تاريخ بغداد وأعلامها" للخطيب البغدادي، "تاريخ دمشق وأعلامها" لأبي العساكر، وكذلك "خلاصة الأثر" للمُحبي، و"تراجم أعيان القرن الثالث عشر وأوائل الرابع عشر" لأحمد تيمور. ويرصد المؤلف اختلافاً رئيساً بين كتابة السير عند العرب وبين كتابتها عند اليونان والرومان. فالسير عند العرب لم تحفل بنظرية الرجل العظيم كما حفل بها مؤرخو اليونان والرومان. فالبطل في التاريخ الإسلامي لم يكن غير ظاهرة اجتماعية لروح العقيدة الدينية، ولذلك فهو لا يصنع التاريخ، وإنما هو صورة تتمثل عصره وبيئيته. وفي بحثه لمسألة العلاقة بين "السيرة والأدب والتاريخ" لا ينكر المؤلف العلاقة بين الأدب والتاريخ، ولا بين التاريخ والسير والتراجم. فجميعهم يعمل على استحضار وتمثيل صورة النفس الإنسانية في صراعها مع الحياة على الأرض. ويلتقي الأدب والتاريخ على حاجتهما للخيال وللإنشاء الأدبي. ولكن ثمة اختلافاً جوهرياً يتعلق بأن "خيال المؤرخ" أقرب الى التصور داخل إطار الحقيقة، أما "خيال المؤلف" فيتسم بالخلق والإبداع. ويختتم المؤلف كتابه برصد لبعض سمات لا غنى عنها لكتابه السيرة التاريخية، ويمكن إجمالها في "السيرة قصة إنسانية - السيرة كتاريخ لا تتكرر ولا تعيد نفسها أبداً - كتابة السيرة يجب أن تنم عن صاحبها". وأخيراً تبقى الإشارة إلى ريادة هذا الكتاب في مجال دراسة فن السيرة التاريخية وعلاقتها بعلم التاريخ العام. فهو يمثل محاولة عميقة وشاملة في تبيان أهمية العلاقة بين التاريخ والسيرة.