سبق للفلسطينيين ان وافقوا عام 1988 في الجزائر على القرار 242 واعترفوا بحق اسرائيل في الوجود في تعايش سلمي مع دولة فلسطينية مستقلة. ألحّ بنيامين نتانياهو أثناء مفاوضات واي بلانتيشن على تأكيد جديد لذلك الموقف. صوت القادة الفلسطينيون مرة اخرى يوم 14/12/1998 وشهد جلستهم الرئيس الاميركي بيل كلينتون. غير ان كلينتون وهو السياسي الحاذق لم يكافئ المجتمعين بوعد كلينتون بل اشاد بجنوحهم للسلام، وقال ان موقفهم سيمس قلوب افراد الشعب في اسرائيل. لم يذكر الحكومة الاسرائيلية ربما لأنه كان يتوقع رد فعلها المتعنت. وبالفعل، مضت ايام على زيارة الرئيس الاميركي وتملص نتانياهو من تنفيذ الانسحاب وأعلن انه سيرجئ اي اجراء يتصل بالانسحاب حتى موعد الانتخابات في شهر مايو ايار المقبل. مرة اخرى لا ينفذ الاسرائيليون كل ما التزموا به امام اعين وآلات تصوير العالم. ومرة اخرى يشرخ التعنت اليميني الاسرائيلي مصداقية الفلسطينيين المعتدلين ويشكك في تقديرات كل دعاة السلام العرب. فما العمل ازاء هذا التحايل الذي يمهد الأرض لاتجاهات اليأس من السلام ويشجع على تنامي الغلو والتطرف وسط الشباب في البلاد العربية والاسلامية؟ ماذا عن احتمالات المستقبل؟ تشير الدلائل الى ان نفوذ وتأثير الجماعات الدينية المتطرفة يتزايد في اسرائيل. وقد بلغ الأمر ان ايهود باراك زعيم حزب العمال صرح قبل اسابيع بأن الحزب لن يعود الى الحكم "الا اذا انفتح على اليهود الارثوذكس"، وأدلى بعد تحديد موعد الانتخابات بتصريح آخر التزم فيه بالمحافظة على المستوطنات في الضفة الغربية وباقي المناطق المحتلة! فلنتأمل معاً بعض المؤشرات التي يمكننا من خلالها استخلاص سياسات لا تستجيب للاستفزاز ولا تتخلى عن الحقوق ولا عن خيار السلام. أولاً: يتعين علينا ان نواجه الحقائق الدامغة ولا نتهرب منها. ومن الحقائق المسكوت عنها في كتاباتنا وتحليلات ساساتنا ما اورده آرثر كوستلر في كتاب "الوعد والانجاز" من ان اليهود افلحوا في الاستيلاء على الأرض لأنهم وفدوا بمهارات اوروبية وأميركية ارفع من تلك التي كانت سائدة بيننا. اتوا مسلحين بمعارف سياسية وادارية وعسكرية لا مثيل لها الا عند افراد قلائل من الطلائع العربية. لذا فإن التنافس لم يكن متكافئاً او عادلاً. ولا يزال هذا الخلل في التوازن قائماً حتى يومنا هذا. المخرج المناسب لنا ليس فقط في التعليم وفي الديبلوماسية بل في استقطاب المهارات العربية والاسلامية من اوروبا والولايات المتحدة وتلقيح النهضة المحلية بها على مدى عشرات السنين. لم يكن مثل هذا الرصيد الحضاري متوافراً لنا في الخارج في الماضي. تغير الحال الآن بعد موجات الهجرة الى أوروبا والولايات المتحدة من الدول العربية والاسلامية. ثانياً: الالتزام بالسلام والتعايش الآمن مع اسرائيل لا يعني التنازل عن الحقوق. نتابع يومياً ما ينشر في الصحف والمجلات العربية عن سعي الحركة الصهيونية لاسترداد اموال وممتلكات اليهود التي نهبت في أوروبا والولايات المتحدة قبل اكثر من نصف قرن: عقارات وأرصدة في المصارف وأسهم في الشركات ولوحات فنية نادرة. ما ضاع حق وراءه مطالب. والمعروف ان وثائق الأممالمتحدة والوثائق الاسرائيلية وأحدثها ابحاث بين موريس والمؤرخين الاسرائيليين الجدد تثبت حقوق العرب الفلسطينيين وممتلكاتهم التي نهبت. وقد اورد مايكل بالمبو في كتابه عن "النكبة الفلسطينية" ان نائباً في الكنيست الاسرائيلي عن حزب ماباي الحاكم آنذاك اعترض عام 1949 على سياسة مصادرة الأراضي الفلسطينية ونهب ممتلكات الفلسطينيين. قال موشي سميلانسكي: "سنواجه يوما ما مُساءلة عن هذه السرقة وهذا النهب، ليس فقط امام ضمائرنا بل امام القانون". ص 195 واجبنا ان نواصل التوثيق والصبر الى ان يحين اليوم الذي تنبأ به سميلانسكي. ثالثاً: الدعوة للسلام لا تعني التخلي عن الواقعية. وتملي الواقعية السياسية وأبجديات السياسة العملية الا نستمسك بأية اوهام حيال بعض القوى التي تواجهنا. ثمة دعاة سلام وبراغماتيون يرغبون في التعايش السلمي مع العرب. وثمة جماعات وأحزاب عنصرية لن يتغير موقفها من العرب او غير العرب حتى اذا استجبنا لكل رغباتها. في كتاب ايهود سبرنتزاك "صعود اليمين الراديكالي في اسرائيل"، معلومات وافية عن المنطلقات الايديولوجية للمتطرفين اليهود. فعندهم ان الأرض الموعودة تمتد من النيل الى الفرات وذلك ما يؤكده الحاخام اسرائيل اريل ص 271. اما الحاخام اسرائيل هيس فيبيح ابادة العرب ص 123، بينما يرى الحاخام دافيد بن حاييم ان غير اليهود مجرد حيوانات ص 274. القول بأن البشر سواسية مرفوض عندهم لأنهم يعتبرون انفسهم افضل من غيرهم. وهم لا يؤمنون بالديموقراطية الليبرالية بمعناها المتعارف عليه لأنها تفترض المساواة في المواطنة للجميع امام القانون. وهم لا يعترفون بالقوانين "الوضعية" بل يعتبرون ان لهم حقاً الهياً في الأرض يملي عليهم ان يتخذوا الحكومة الاسرائيلية ويسمح لهم بطرد المسلمين والمسيحيين ص 274. ويقول سبرنتزاك وهو باحث يهودي - اميركي ان اليمين الديني في اسرائيل "شبه فاشي" ص 233. والمعروف ان المفكر الصهيوني المتطرف جابوتنسكي اكد - في رسالة بعثها عام 1953 الى الدكتور هانس بلوك - بأن اتباعه من الشباب متأثرون بالنازية. الأفكار الدينية المتطرفة جزء اصيل من تراث المؤسسة الحاكمة في اسرائيل. فدافيد بن غوريون العلماني هو الذي سمح بتمويل الدولة للمدارس الدينية واعفاء طلابها من الخدمة العسكرية لزيادة عدد رجال الدين بعد النقص الذي نجم عن المحرقة. والمنظمات الدينية المتطرفة موجودة في الحياة العامة وفي المستوطنات وفي البرلمان. التيار الرئيسي البراغماتي يواجهها احياناً بحزم كما حدث عند توقيع اتفاق كامب ديفيد ثم اخلاء مستوطنة ياميت في سيناء بالقوة عام 1982، وكما حدث عند اجازة قانون عزل كاهانا سياسياً عام 1985، وكما حدث عند اعتقال المتطرف يول ليرنر عامي 1974 و1982 عندما حاول تدمير المؤسسات الدينية المسيحية، ووضع متفجرات قرب المسجد الأقصى. لكن المؤسسة الحاكمة تحرص على تحديد نقطة تتوقف عندها لئلا يتفاقم الصراع الاسرائيلي - الاسرائيلي. وفي ذلك درس للسلطة الفلسطينية في تعاملها مع المنظمات الدينية المتطرفة. لا مناص احياناً من الردع ووضع حد للتجاوزات - لكننا ينبغي ان نتذكر تجربة المؤسسة الحاكمة في اسرائيل، ونتوقف في نقطة معينة كيلا نخوض حرباً اهلية فلسطينية - فلسطينية يحلم بها نتانياهو وحلفاؤه. وإذا كانت اسرائيل تبيح التعذيب وتلجأ للعقوبات الجماعية فتواجه الادانة تلو الادانة من منظمة العفو الدولية فان السلطة الفلسطينية بحاجة الى سجل مغاير ويُتوقع منها ان تتمسك بحماية حقوق الانسان الفلسطيني مهما كان لونه السياسي او نشاطه. اما السلام فممكن - رغم كل العقبات - مع القوى البراغماتية ومع انصار السلام الاسرائيليين. لكن نصيبنا من ثمرات السلام لن يستكمل الا بسد الفجوة في العلوم والفنون والمهارات والصناعات والخروج من حالة التخلف والتحلي بالواقعية دون التخلي عن الحقوق الثابتة مهما طال الزمن. ان لم نفعل ذلك فلن ننال سوى "وعد هيلاري كلينتون" التي نادت بصفة غير رسمية بانشاء دولة فلسطينية فواجهت عاصفة من الغضب الاعلامي الصهيوني المنظم، فصمتت. * كاتب وجامعي سوداني.