ضمن التطورات التي يحفل بها كل يوم من أيام القصف الاطلسي على يوغوسلافيا، كانت هناك روايات مقلقة عن مصير القادة الألبان الذين وقّعوا اتفاق رامبوييه ابراهيم روغوفا، رجب تشوسيا، فيتون سوروي وهاشم ثاتشي. ولذلك كان من المفاجئ ان يظهر اولاً ابراهيم روغوفا في مؤتمر صحافي كأنه في حصار يوم الأربعاء 31/3/99 ثم يظهر مبتسماً مع الرئيس سلوبودان ميلوشيفيتش المبتسم ايضاً على رغم من كل ما فعله مع الألبان يوم الخميس 1/4/99 والاعلان على اتفاق حول العمل لأجل السلام، مع التركيز على طلب روغوفا وقف قصف الاطلسي ليوغوسلافيا بعد ان كان قد طلب قبل يومين الاثنين 29/3/99 بتدخل أرضي للأطلسي! وكان من الملفت للنظر ان يتم التعريف الآن بروغوفا "زعيم الألبان في كوسوفو" مع ان ميلوشيفيتش هو من دمّر زعامته للألبان وأوصل الاقليم الى ما هو فيه. فقد كان روغوفا بحق زعيم الألبان في كوسوفو خلال السنوات السابقة لانفجار المشكلة وبالتحديد منذ انتخابه رئيساً ل"جمهورية" كوسوفو في 1992، التي لم تعترف بها سوى البانيا. وتميز روغوفا منذ انتخابه بالاصرار على سياسة الكفاح السلمي لاسترداد الحقوق المهدورة للألبان منذ الغاء الحكم الذاتي في 1989. ونجح بالفعل في استقطاب غالبية الألبان حوله في مواجهة العنف المسلح وهو ما كان يصب في مصلحة بلغراد بشكل ما. ولكن مع تصاعد التنديد الأوروبي والدولي منظمات حقوق الانسان بالممارسات الصربية في كوسوفو وتدخل بعض الاطراف للوساطة بين الطرفين للتوصل الى اتفاق، جرت مفاوضات سرية للغاية خلال 1995 - 1996 اسفرت عن التوقيع على اتفاق ميلوشيفيتش - روغوفا في ايلول سبتمبر 1996. وفي الحقيقة كان هذا الاتفاق، على نمط اتفاق اوسلو، يعترف بالمشكلة ويجزئ الحل على خطوات. وبينما بدأ اتفاق اوسلو اولاً بغزة - اريحا لينطلق بعدها الى مناطق اخرى، تضمن اتفاق ميلوشيفيتش - روغوفا حل المشكلة في مجال واحد التعليم لينطلق بعده نحو مجالات اخرى. وفي حين ان ميلوشيفيتش لم يخسر شيئاً بالتوقيع على هذا الاتفاق، الذي تضمن لقبه الرسمي رئيس جمهورية صربيا آنذاك بينما لم يرد اي لقب مع اسم روغوفا، وجد روغوفا نفسه في فخ غير متوقع. فقد أراد روغوفا من خلال هذا الاتفاق، في وجه المعارضة التي بدأت تتنامى، ان يحلّ اكبر مشكلة في كوسوفو التعليم ليكسب الشبيبة بشكل خاص 25 في المئة من سكان الاقليم على مقاعد التعليم! ولكنه أثار ضده معارضة اوسع بكثير. وعارضت بقوة بعض كبار المثقفين الذين اتهموه بالتخلي عن الجوهر السياسي للمشكلة استعادة الحكم الذاتي الذي الغي في 1989 تحت شعار الاعتبار الانساني لمشكلة محددة التعليم. وهكذا حقّق ميلوشيفيتش "ضربة معلم"، كما قيل حينئذ، اذ تمكن من شق الطرف الألباني الذي كان متماسكاً حتى ذلك الحين وراء روغوفا الى معسكرين متنازعين. ومع ان اتفاق ميلوشيفيتش - روغوفا تضمن الآلية اللازمة لتطبيقه، الا ان ميلوشيفيتش لم يكن متحمساً لتطبيق هذا الاتفاق بعد ان رأى نتائجه الأولية على الأرض، بل انه اخذ يراهن على عدم التطبيق. وهكذا كلما تأجل تطبيق هذه الاتفاقية اكثر، كان روغوفا يخسر اكثر ويزداد الاحباط لديه من سياسة الكفاح السلمي التي كان يصرّ عليها. ولذلك لم يكن من المصادفة ان تتزامن الذكرى الأولى لتوقيع الاتفاق 1/9/1997 بانطلاق عمليات جيش تحرير كوسوفو، الذي طرح خيار العمل المسلح لتحقيق ما فشل فيه روغوفا. ومع ان روغوفا اتهم في البداية بلغراد بأنها وراء تأسيس هذا الجيش، الذي كان يمثل اكبر تهديد لزعامته حتى ذلك الحين، الا ان الزمن اثبت ان هذا الجيش تحول بالفعل الى طرف الباني قوي، لا يقبل بزعامة روغوفا. ومع تصاعد نفوذ جيش التحرير الذي رفع شعار الاستقلال، اشار المحلل السياسي لوكالة "رويترز" في أيار مايو 1998 الى ضرورة ان يقوم ميلوشيفيتش بالتساؤل عن قدرة روغوفا الآن على اقناع الألبان في كوسوفو بأي حل آخر غير الاستقلال. وفي اليوم ذاته، 14 أيار مايو 1998، اطلق ريتشارد هولبروك مفاجأته بترتيب لقاء ميلوشيفيتش مع روغوفا في اليوم التالي الجمعة 15 منه في بلغراد. وفي تحذير بالغ الدلالة في ذلك الوقت والآن ذكر هولبروك ان "الأزمة في كوسوفو اذا لم تحل فيمكن ان تتصاعد الى ما هو أسوأ من البوسنة قبل دايتون". وبالفعل، خطف لقاء الغد بين ميلوشيفيتش وروغوفا الأضواء، ولكن النتائج جاءت محبطة. لقد كانت تلك هي الفرصة الحقيقية لميلوشيفيتش في ان يعزّز موقف روغوفا المعتدل في وجه جيش التحرير المتطرف باتفاق شامل حول الحكم الذاتي في كوسوفو، ولكن ميلوشيفيتش اكتفى بما حققه هذا اللقاء من عزل روغوفا اكثر وأكثر في كوسوفو، اذ انفضّ من حوله المزيد من المؤيدين بعد هذا اللقاء الفاشل. ان هذا الامر يتكرر الآن، ولو في ظروف مختلفة. اذ بدا ان ميلوشيفيتش حقق "ضربة معلم" في هذا اللقاء حين ظهر فجأة مع روغوفا الذي اصبح الآن "زعيم الألبان في كوسوفو"، وبدا ان ميلوشيفيتش يمكن ان يسحب البساط من تحت حلف الاطلسي. فطالما ان "زعيم الألبان في كوسوفو" مبتسم ومتفاهم مع ميلوشيفيتش على حل سلمي، فماذا يبقى من مبرّر للأطلسي للتدخل في يوغوسلافيا بحجة كوسوفو طالما ان "زعيم الألبان في كوسوفو" يطالب الآن بوقف القصف؟! ولكن الغرب ردّ على ذلك بسرعة اذ دعت المانيا وايطاليا وفرنسا والولايات المتحدة روغوفا الى بون او بروكسل للتباحث معه، لأنها تعرف ان روغوفا مجرد رهينة في يد ميلوشيفيتش وانه سيعبر عن رأيه الحقيقي بمجرد مغادرته ليوغوسلافيا. فروغوفا نفسه كان قد صرّح لمجلة "دير شبيغل" في يوم الاثنين الماضي 29/3/1999، اي قبل يومين من اعتقاله، بضرورة القيام ب"تدخل ارضي" لقوات الاطلسي في كوسوفو، اي انه لم يكن يكتفي بالقصف الجوي ليوغوسلافيا. وعلى الرغم من ان ميلوشيفيتش بدا في وضع يحقق فيه "ضربة معلم" في لقائه المفاجئ مع روغوفا، مع انه لم يقدم اي تنازل حقيقي، الا ان الغرب امتصّ هذه الحركة بدعوة روغوفا فوراً الى بون او بروكسل، وأصبح الآن اقرب الى توجيه "ضربة قاضية" الى ميلوشيفيتش. * مدير معهد بيت الحكمة جامعة آل البيت الأردن.