فلسطينية من غزة، سوزان الفرا - الكنز تعود في كتابها الذي صدر بالفرنسية «بيت في النقب، حكاية فلسطينية» إلى مسيرتها كإنسانة منفية حط بها الرحال في بلدان عدة من المملكة العربية السعودية إلى تونس مروراً بالجزائر، لتستقر في النهاية في فرنسا. تستقر؟ ربما كانت كلمة في غير مكانها تماماً هنا. قد تكون الوقفة الأهم في رحلتها، الموقف الأصعب، العودة لزيارة بيت أمها في بير السبع، البيت الذي سرق منهم بعد النكبة، حين اصطحبتها والدتها مع أخيها في يوم صيفي حار إلى هناك للمرة الأولى وهي في الخامسة عشرة من عمرها. دخلوا البيت عنوة، تستعيد اللحظة «كانت أمي وكان بيتها. نحن، كنا مسحوقين تحت ثقل هذا التاريخ، تاريخها. لم يعد لنا من وجود، محونا تلاشينا امام هول المشهد». جاؤوا ليكتشفوا ما كانوا على دراية به في أعماقهم، ليلمسوا الحقيقة لمس اليد. ثمة عائلة إسرائيلية قد احتلت هذا البيت، استولت على تاريخه وذاكرته، استملكته كما هو، لم تغير فيه شيئاً، حتى طبق الفاكهة الكبير ما زال في مكانه فوق الطاولة، لحظته عينا الأم الحانقة، بيد أن أكثر ما استثار غضبها كان هذا الغطاء الذي طرزته بيديها مفروداً تحت الطبق... «ولكن يا أولاد الكلب، هذا بيتي! بيت أبي. هذا اثاثي، وهذا الطبق لي» تجن الأم صارخة. من مكان إلى آخر ترحل العائلة، من غزة إلى السعودية للعمل، ومنها نحو المحطة الثانية. في الجزائر المستقلة حديثاً تبحث سوزان عن هوية جديدة مبهورة بهذه الحمى الوطنية للجزائريين، لكن أرضها تبقى ماثلة في خيالها، تلك الأرض التي باتت العودة إليها مستحيلة بعد حرب الأيام الستة. ما بقي مشتعلاً في ذاكرتها كانت الحميمية العائلية في غزة، تلك السعادة التي غمرتها خلال إقامتها لدى العائلة «الكبيرة» هناك بعد زيارة بيت بير السبع، سعادة أنستها أزمة «البيت» وما جرى فيه، تسترجعها اليوم في سيرتها، وهي في الغربة، في سرد يكشف حنيناً كامناً لما قد يكون الرابط الأكثر قوة ببلدها. في الجزائر، كانت الراوية مأخوذة بهذه الفوارق بين المغرب والمشرق. دراستها الجامعية ثم لقاؤها بزوج المستقبل الجزائري فتحا أمامها آفاق الثقافة الغربية والماركسية، تذوقت الحرية بعيداً عن التزمت الشرقي، ما جعلها تتجاوز لحين مشاكل الهوية لديها. بيد أن قدر الرحيل يفرض نفسه من جديد، ولأسباب تتعلق بالوضع السياسي في الجزائر، كان الوقت قد حان لتجبر من جديد على المغادرة مع زوجها وصغيريها نحو تونس ثم فرنسا. هناك، يتحتم عليها مرة أخرى التأقلم مع مجتمع غير قادر على إدراك معاناتها المرتبطة بتاريخ سياسي عنيف لا يتعلق به مباشرة. شعور بالنفي يتعزز، تغتاظ من الاهتمامات الصغيرة للبرجوازية الصغيرة المحيطة بها، لكنها تحاول اقناع نفسها بنسيان بير السبع وقبول تلك الحياة «الصغيرة» في فرنسا» ما يهم هو الحاضر، بيت صغير، حديقة صغيرة، عمل صغير... حياة صغيرة». هاجس العودة إلى أرضها لا يغادرها، وكما فعلت امها يوماً، تصطحب هي ولدها ذا الستة عشرة عاماً وتستقل الطائرة إلى تل أبيب، تمتزج مع المسافرين، الإسرائيليين في معظمهم، هؤلاء الذين ينظرون بعين الرضا إلى كل مهاجر جديد. غير أن نظرة هؤلاء إليها تتبدل وموقفهم يتغير مع رؤيتهم لمكان الولادة: غزة. ها هو ابنها يتعرض بدوره لتجربته الأولى مع هذا البغض بين الشعبين. في القدسالشرقية تحاول أن تذوب في هذا المجتمع الذي ابتعدت عنه منذ زمن طويل والذي كانت تعاود اكتشافه بشيء من الحنان، تجول في مدن عدة إلا غزة التي منعت من زيارتها. ترجع إلى بير السبع لتكتشف أن منزل أمها قد تحول إلى كنيس مغلق أمام الأجانب. أمام هذا الفشل، هذا الباب المغلق، اغلقت صفحة من تاريخها إلى الأبد. تعود إلى فرنسا من دون ان تتخلص من أوجاعها، لكنها تبدو وكأنها استكانت لها، تعلمت قبول هذا المنفى الأبدي، هذا الشعور بالخواء الذي يشغلها منذ الطفولة، فهل الفضل في ذاك يعود إلى ابنها الذي سلمته هذا الإرث أخيراً كما يرشح من كلماتها؟: «عدت إلى نانت مع ولدي. لدي شعور بأنني مررت له شيئاً ما. هذا الإرث المسموم ربما، فماذا سيفعل به؟ لا ادري. آمل فقط من كل قلبي أن يتدبر أمره معه أفضل مما فعلت». عبر حكايتها الخاصة وحياتها التي ترى فيها سلسلة من المنافي، تبدو الكاتبة صدى لأحوال وأحاسيس يشاركها فيها شعب بأكمله، وتتوصل بحذق، إلى تمثيل الواقع الإنساني لهذا الاغتصاب والاقتلاع من الجذور الذي يختزل غالبا إلى وضع سياسي. تحكي سيرتها الذاتية نائية ما أمكن عن السياسة، عن الإدانة المباشرة، مقتربة بحذر من قضية تثير حساسية في الغرب. تسرد معاناة إنسانية يبدو فيها الواقع أحياناً متشابكاً مع صور فرضها الخيال، كتعويض عن الفقدان. في كتابها الذي نشر في الجزائر (APIC) وكندا وفرنسا عن دار النشر (l'aube)، ونال جائزتين (إحداهما تحمل اسم الكاتب المالي يامبو أولوغيم)، لا تقع سوزان في فخ البكائية ولا تلبس ثوب الضحية وهي تصف علاقتها المعقدة مع أرضها، وشعورها بهذا الانتماء إلى هوية من الصعب أن تنهض بأعبائها. كتابتها بسيطة تنساب بهدوء بعيداً عن العاطفية، ومع هذا تجعل قارئها يعيش لحظات ملأى بالمشاعر، بالثورة، بالغضب، مشاعر تمررها بصدق وموهبة. أما نبرتها الساخرة المرتبطة بقصتها المؤثرة، فهي تهب القارئ صورة معبرة عن صاحبتها: إمرأة قوية وطريفة على رغم جروحها العميقة.