عندما قادت الولاياتالمتحدة التحالف الدولي لتحرير الكويت كانت كل خطوة للتحالف مشمولة بقرار لمجلس الأمن الدولي. وعندما توقفت الحرب قبل اسقاط صدام حسين، بررت الولاياتالمتحدة موقفها بعدم وجود قرار دولي يدعو الى اسقاطه. اليوم تخوض الولاياتالمتحدة حرباً ضد سلوبودان ميلوشيفيتش من دون وجود اي قرار دولي يبيح مثل هذه الحرب. الرئيس الصربي مجرم حرب ولا جدال، وقد ارتكب ونظامه من الجرائم ما يستحق معه أشد عقاب. غير ان النقطة ليست هنا، بل هي في مشروعية ان تنتزع الولاياتالمتحدة، او حلف شمال الاطلسي، القرار الدولي. هناك ثلاثة قرارات دولية في شأن كوسوفو تحمل الأرقام 1160 و1199 و1203، صدرت سنة 1998، ويجمع الخبراء القانونيون على انها لا تعطي "الناتو" حق التدخل عسكرياً في المقاطعة، فهي تختلف عن قرارات 1990 و1991 ضد العراق، وعن التفويض الدولي في موضوع البوسنة سنة 1995. ومرة اخرى، فالحاكم الخارج على القانون مثل صدام حسين او سلوبودان ميلوشيفيتش يجعل اي ضربة عسكرية ضده مبررة تماماً، وهنا مكمن الخطر، فالضربة من هذا النوع سابقة، وإذا كان الهدف هذه المرة الصرب، او يوغوسلافيا، فأين سيكون الهدف القادم؟ مجرم الحرب ارييل شارون الذي أصبح وزير خارجية اسرائيل اعترض على الهجوم الذي تقوده اميركا ضد الصرب، وقال ان اسرائيل قد تكون الهدف القادم. طبعاً اسرائيل لن تكون هدف اي هجوم اميركي، الا اذا قررت الولاياتالمتحدة ان تهاجم نفسها. وكان الحري بمسؤول اسرائيلي ان يسبق العالم كله الى التنديد بالصرب، وهو يرى قطارات اللاجئين التي ذكّرت الناس بقطارات الموت التي نقلت اليهود الى معسكرات الاعتقال النازية. شارون لم يرَ هذا، وانما تحدث عن خطر مستحيل. الخطر الحقيقي في الهجوم على يوغوسلافيا، بعد انتزاع القرار من مجلس الأمن الدولي، هو في الهاء الولاياتالمتحدة عن التعامل مع قضايا دولية ملحة اخرى، بما فيها عملية السلام في الشرق الأوسط. العملية كانت مجمدة اصلاً بسبب الانتخابات الاسرائيلية القادمة، وجاءت الحرب في البلقان لتزيدها جموداً، مع ان بعض الاستحقاقات لا ينتظر. ونعرف الآن ان الفلسطينيين كانوا سيعلنون دولتهم المستقلة في الرابع من أيار مايو، كما نرجح ان يرجئ ابو عمار اعلان الدولة لتفويت فرصة استغلال القرار في الانتخابات الاسرائيلية التي ستجري دورتها الأولى في 17 من الشهر القادم. غير ان ثمة تاريخاً آخر في أيار قد لا ينتظر انتهاء الحرب في البلقان، او الانتخابات الاسرائيلية، فالكونغرس الاميركي كان صوت بغالبية كبرى سنة 1995 على نقل السفارة الاميركية من تل أبيب الى القدس في موعد اقصاه 31 من الشهر القادم. وهدد بتجميد نصف مخصصات البناء في ميزانية وزارة الخارجية الاميركية اذا لم تبدأ خطوات نقل السفارة في الموعد المضروب. غير ان نقل السفارة في الظروف الحالية قد يشكل ضربة للعملية السلمية، ربما كانت قاضية، فالقدس هي الأساس، وإذا فشلت الادارة الاميركية في العمل لتنفيذ كل اتفاق آخر، ونقلت السفارة الى القدس، كما يريد الاسرائيليون، فان العملية تكون انتهت بانتصار اسرائيلي يعيد المنطقة الى اجواء الحرب والمواجهة. وعملية السلام ليست القضية الوحيدة التي يبدو ان الولاياتالمتحدة اهملتها مع انشغالها بالحرب في البلقان، فهناك المواجهة المستمرة مع العراق، والغارات التي لا يعرف احد هدفها، او متى ستنتهي. الولاياتالمتحدة لم تحرك ساكناً فيما كان المسؤول الدولي عن حقوق الانسان في العراق ماكس فان در ستول ينشر تقريراً لاذعاً عن عدوان النظام في بغداد على الحقوق الانسانية لشعبه، او فيما كانت ثلاث لجان دولية تنشر تقريراً آخر عن الاوضاع المعيشية داخل العراق تحدث عن معاناة هائلة، واقترح خطوات محددة لتحسين اوضاع الشعب العراقي. متى تنتهي الحرب في البلقان لتستطيع الولاياتالمتحدة الالتفات الى قضايا اخرى، تلعب فيها الدور الرئيسي باصرار منها؟ وهل يمكن ان تنتظر كل قضية اخرى دورها، او يأتي ما يفجرها لتعود اطرافها جميعاً الى نقطة البداية؟ الوضع في كوسوفو مأسوي، وسلوبودان ميلوشيفيتش يستحق ما يصيبه، غير ان الولاياتالمتحدة تتعامل مع خارج عن القانون بالخروج على القانون الدولي بدورها، ثم تهمل قضايا مهمة اخرى بشكل لا يطمئن الى قدرتها على الاسهام في حل المشاكل الدولية.