أفواج من العمال المتعبين يحملون بعض الأشياء الصغيرة يتدفقون داخل الممر الطويل... المشهد يشي بأن اهالي غزة غادروها معاً وقرروا العودة اليها معاً ايضاً في ساعة واحدة. الشباب منهم يحث الخطى والبعض الآخر يمشي بتثاقل. لكنهم يعلمون جميعاً انهم سيصطفون في منتصف هذا النفق، كما القطيع المعدّ للذبح، في مسارات خصصت لهم تنتهي بقضبان حديد تسمح بدخول شخص واحد فقط يحبس داخلها الى ان يتم الانتهاء من التدقيق في التصريح الذي سمح له بالخروج من هذا القفص في صباح ذلك اليوم. وعلقت مصابيح باللونين الاحمر والاخضر فوق هذه المسارات لتأذن ببدء عملية "السلخ" او وقفها لأَجَل. فوجئ العمال قبل يومين بأن اجراء جديداً اضيف الى الاجراءات "الامنية" المتخذة ضدهم: "عليكم التوجه الى هذا المكتب، مشيراً الى لافتة كتب عليها "مكتب الارتباط" ليتم ختم التصاريح"، قال جندي لم يتجاوز الثامنة عشرة من العمر للعمال. وأجاب احدهم بتردد وهو يتشبث بتصريحه خوفاً من ان يفقده: "هل اصبح تصريح الخروج جواز سفر"؟ اجاب الجندي وهو يبتسم: "شيء من هذا القبيل". تسابق العمال الى حيث طلب منهم التوجه. باب المكتب مقفل ولا يوجد احد في داخله. "ايها الجندي" قال احد العمال بعبرية متقنة "لا يوجد احد بالداخل" وجاء الرد "انتظروا". ونفد صبر العمال المتعبين الذين ربما يحلمون بوضع رؤوسهم على الفراش ليغطوا في نوم قلق قبل ان يحين موعد رحلة العذاب التالية. طالبوا الجندي بأن يجد الضابط المسؤول عن هذا الاجراء الجديد، وكان الرد مرة اخرى "انتظروا خمس دقائق... عشر دقائق... سيأتي". وربما ظن الجندي الاسرائيلي ان عشر دقائق ليست بالوقت الطويل بالنسبة الى العامل الفلسطيني الذي يستيقظ قبل بزوغ الشمس ليصل الى حاجز "ايرز" - المنفذ الرئيسي لقطاع غزة الى داخل اسرائيل - حيث تستغرق اجراءات المغادرة للتوجه الى مكان عمله في المصانع والورش الاسرائيلية نحو ساعتين. بعدها يسير على الاقدام في داخل الممر الذي تحيط الاسلاك الشائكة بقسم منه والجدران الاسمنتية بقسم آخر. وفي نهاية هذا النفق تنتظره الحافلات الاسرائيلية المعدة خصيصاً لنقل كل عامل الى مكان عمله من دون السماح له بالتوقف في اي مكان آخر تحت اي ظرف من الظروف. فهذه "المخلوقات" قنابل موقوتة يمكن ان تنفجر في اي لحظة في الطريق من حاجز الرعب والمذلة الى تل أبيب او غيرها من المدن الاسرائيلية. ولكن بعد اكثر من خمس عشرة ساعة فإن عشر دقائق تعني الكثير وربما تؤدي الى انفجار "القنابل الموقوتة" تلك. لا احد يعرف في قطاع غزة متى ستنفجر هذه "القنابل" فعلاً، لكنهم يؤكدون جميعاً ان الوقت بات قريباً جداً. ويذكرون ان الانتفاضة الفلسطينية التي تفجرت اواخر العام 1987 بعد حادث سير عادي أودى بحياة اربعة عمال، اندلعت في وقت كانت الغالبية منغمسة مثل هذه الأيام في "المادة" و"توفير لقمة العيش" والاقلية في حياة "البذخ والمتعة"، كما قال احد العمال متابعاً: "كان اهل العريس على سبيل المثال يذبحون سبعة خراف ليلة الزفاف". وأضاف: "غزة غريبة ولا يعرفها جيداً الا من يعيش فيها". وقرر الجندي الاسرائيلي اخيراً مناداة الضابط المسؤول، فتجمهر العمال كل يريد الانتهاء بأسرع وقت ممكن من هذا الاجراء، لأن هناك اجراء آخر للتدقيق في الختم والتصريح نفسه وفي تطابق المعلومات الواردة فيه ببطاقة الهوية... وهنا ايضاً ربما تنتظر دقائق "قليلة" فالمجندة الموجودة وراء الشباك ربما تكون "مشغولة" بتصفح مجلة، وهناك أيضاً بعد التفتيش الجسدي وتفتيش الامتعة، وبعده ايضاً رحلة النفق ولكن هذه المرة في طريق العودة. يراقب العمال يوماً بعد يوم "تمدد" حاجز "ايرز"، كان خلال الانتفاضة مجرد حاجز عسكري يقف الجنود الاسرائيليون عليه ويدققون في هويات الداخلين والخارجين منه. اما الآن فان "ايرز" اصبحت نقطة حدودية بكل معنى الكلمة تشمل في ما تشمله منطقة صناعية اسرائيلية ضخمة وقسماً لدخول "الاجانب والاسرائيليين" وآخر لفلسطينيي داخل الخط الاخضر وآخر لفلسطينيي "يهودا والسامرة" اي الضفة الغربية كما كتب على اللافتات. ابتلع "حاجز ايرز" مئات الدونمات من اراضي غزة التي كان من المفروض ان تكون تحت سيطرة السلطة الفلسطينية وفقاً لاتفاقات اوسلو. "هل سيعلن المجلس المركزي الفلسطيني قيام الدولة" سؤال "شبه انتحاري" تلقيه على العامل المتعب. لكن الاجابة تقرؤها في العيون قبل ان تسمعها. يجول العامل بنظره في المكان ويسير من دون ان ينبس بكلمة...