نشر الأستاذ خالد المبارك في "الحياة"، عدد 23 آذار مارس 1999 بعنوان: "هل خسر السودانيون الشماليون معركة "جماعات الضغط" في اميركا؟". وينعى الكاتب في هذا المقال حظ بعض المثقفين الشماليين الذين خسروا هذه المعركة، ويبخس حظ من كسبوها بتهمة "التبرؤ من الوشائج العربية" والبقية تأتي. وتفسيره لما حدث هو ان الدنيا حظوظ. ولهذا فهو يستهل مقاله ويختتمه بالمثل الذي يقول: "الدنيا دولاب دوار، يوم في العالي ويوم في الواطي". وبما أنني من المشمولين بتهمة التبرؤ المزعومة وتوابعها، فإنه يحق لي ان أرد على الكاتب بالموضوعية التي يقتضيها الموقف. غير ان هذا الرد لن يكون مفيداً الا في سياق خلفية من الاحداث تتضمن ما هو شخصي وما هو موضوعي. فالغاية هنا هي التصدي لضرب من التفكير يقوم على "نشر انصاف الحقائق والمعلومات المحرفة عن السودان" بغية بذر بذور الشقاق بين الشمال "العربي" والجنوب "الزنجي"، تطبيقاً لاستراتيجية فرق تسد. وهناك ما يدل على ان الصاق مثل هذه التهمة بالمثقفين الشماليين المنحازين الى الجانب الافريقي هو مقدمة لنقل آلة الحرب الى الشمال "العربي" بعد ان صار يشكل حلقة الوصل المفقودة بين معسكر الختمية في اقصى الشمال وحركة جون قرنق في أقصى الجنوب. وتلافياً لهذا "الخطر" شرعت بعض الجهات التي تتوجس من اي تغيير حقيقي في العمل بدأب على ايجاد تقارب بين نظام الترابي وبعض شرائح المعارضة التقليدية انطلاقاً من روح "الشريعة العلمانية" التي صارت مقبولة للطرفين. وكل من يعارض هذا "التوجه الحضاري" الجديد يمكن ان يوصم بأنه من المتبرئين من الوشائج العربية بتأثير من الغرب. ومن ثم ينشأ السؤال عن هوية القوى المعنية بهذه التهمة ودورها المرتقب في لم الشمل الوطني من اجل انقاذ البلاد من الانقاذ. فهل هي فعلاً صنيعة للغرب، مثلما ان البعض صنيعة للشرق؟ وقبل الدخول في لب الموضوع اقول انني أعرف الكاتب بصورة لا بأس بها. بل كانت صلتي به وثيقة حتى مفترق الطرق: وهو قيام نظام النميري العسكري في عام 1969 وانقسام المثقفين الشماليين بين مؤيد ومعارض. وكان الاستاذ المبارك في عداد قلة من المؤيدين للنظام المايوي من منطلق يساري يبرر استخدام القوة كوسيلة للسلطة. وكنت وغيري في عداد المعارضين من منظور ديموقراطي يسعى لاسترداد الديموقراطية بوصفها وسيلة لتمكين الشعب من صنع مصيره بنفسه. ولا يزال هذا هو موقف الكثيرين، ولئن تأخر نشره لأسباب سوف يجري بيانها في سياق لاحق. وهو موقف ليس بالجديد ولا جاء نتيجة تأثيرات خارجية. وبطبيعة الحال فإن هذا المنظور الديموقراطي يتعارض وطبيعة النظم العسكرية التي تقوم على الاستبداد واستراتيجية فرق تسد. نيويورك - حسن كباشي