ما إن يسقط نظام طاغية عربي، أو يوشك على السقوط، حتى تدبّ في الأوساط الثقافية العربية فوضى عارمة، عنوانها: مَن تعاونوا مع الطاغية المخلوع. هكذا تبدأ جموع المثقفين والكُتّاب في فتح الدفاتر القريبة والقديمة، وحتى الموغلة في القدم، من أجل الإسراع في إعداد قوائم سوداء لأسماء سبق أن شاركوا في مناسبة ثقافية أو مهرجان أدبي أو ما شاكله من المناسبات التي لا تحصى. عشنا هذه التجربة خلال العقدين الماضيين، وتحديداً منذ اجتاحت قوات الرئيس العراقي السابق صدام حسين الأراضي الكويتية، وحوّلتها بقرار رئاسي من دولة مستقلة إلى مجرد محافظة عراقية تدار أمورها من بغداد مباشرة. يومها انقسمت الساحة الثقافية إلى فريقين متصارعين، وتحمَّسَ بعض من يؤمنون بحرية الكويت واستقلالها، لنشر قوائم بأسماء الفريق الآخر واعتبارهم أزلاماً للنظام العراقي. لكن تلك الحملة ظلت محدودة وخجولة، لتأخذ بعدها الكبير بعد سقوط نظام صدام، وتحديداً حين نشرت قوائم «كوبونات النفط»، التي كان يتقاضاها بعض المثقفين والسياسيين العرب من نظام صدام لقاء مواقفهم المؤيدة لسياساته. ومع أن تلك القوائم حملت في كثير منها أسماء من تعاملوا فعلاً مع نظام صدام وتلقوا تلك الكوبونات، إلا أنها مع ذلك كثيراً ما خلطت الحابل بالنابل، وأوردت أسماء مثقفين وسياسيين عرب لا ناقة لهم ولا جمل بتلك الكوبونات، بل هم، كما يقول المثل الشعبي، «راحوا في الرِّجْلين». أخطر ما في فوضى كهذه في تقديري، ليس فقط خلط المذنبين بالأبرياء، ومَن قبضوا المال بمن لم يقبضوا، على خطورة هذه المسألة، ولكنها عقلية المكارثية، التي ترى الحياة الثقافية والسياسية بحدقة أمنية، نعتقد أنها لا تنتج سوى المزيد من الاحتراب، ولا تشجع إلا على توسيع مساحة الفوضى. لا نعني بهذا السكوت عن الذين أخذوا مواقف سياسية أو ثقافية تدعم النظم المتسلطة، أو تساهم في تلميعها وتضليل الشعوب العربية عن حقيقتها، بل نشير من خلال ما نقول إلى أهمية أن تكون المحاكمات المرجوّة ثقافية، وتنهض على قراءات ثقافية، لتصل لأحكام واستخلاصات ثقافية. الحياة الثقافية العربية تشهد منذ بداية الأحداث الثورية في ليبيا حراكاً ثقافياً في اتجاه «كشف المستور» في علاقة بعض المثقفين العرب بنظام العقيد معمر القذافي خلال عقود حكمه الأربعة، وهي زمن طويل نعتقد أن مجرّد التفكير بتحريم التعامل معه (بأثر رجعي كما يحدث اليوم) لن تكون له من نتائج سوى تأثيم أعداد لا تحصى من الكُتّاب والمثقفين والسياسيين العرب، الذين سبق لهم خلال الأربعين سنة ونيفين أن زاروا العاصمة الليبية، أو شاركوا في مناسبة ثقافية أو أدبية انعقدت هناك. في حالة كهذه سيختلط الحابل بالنابل، وسيغيب من أذهان المتحمسين للقوائم السوداء أن ليبيا كانت طيلة تلك العقود بلداً عربياً، ولم يكن المنطق يفترض مقاطعتها بسبب أن نظامها قمعي ولا يسمح بالحريات لشعبه، فتفكير كهذا يعني ببساطة إغلاق دنيا العروبة من المحيط إلى الخليج، والبدء بموسم هجرة إلى الشمال الأوروبي، وتلك في تقديري حالة كاريكاتورية لا علاقة لها لا بالثقافة ولا بالسياسة من قريب أو بعيد. في سنوات التسعينات الأولى كتبت مقالة حادة في هجومها على العقيد معمر القذافي شخصياً وبالاسم، ونشرتها في جريدة «الحياة». كان ذلك يوم أمر القذافي بطرد العائلات الفلسطينية الى الصحراء الكبرى بين ليبيا ومصر بسبب غضبه من اتفاق أوسلو، وتحت ذريعة الضغط على الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات لاستيعاب الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. بعد نشر تلك المقالة، عاتبني كثر من المثقفين العرب، الذين رغم إدانتهم سلوك القذافي وتصرفه الفاشي، رأوا في مهاجمته عملاً غير مسؤول، لأنه موجّه ضد زعيم يرون رغم كلّ شيء أنه ينتمي إلى صفوف «الثورة العربية»! ولا يجوز الهجوم عليه، بل الحوار معه ومحاولة إقناعه بالرجوع عن موقفه. مع ذلك، وبالرغم من المرارة التي لا حدّ لها، والتي عشتها بسبب ذلك القرار الهمايوني، بل الفاشي، الذي وضع الفلسطينيين في الرمال لمدة عامين كاملين، لم أرتّب قائمة سوداء لأولئك الذين كانوا «يزوغون» عن مسألة تشريد شعب ودفعه للصحراء، بالحديث عن أخطاء اتفاق أوسلو! هو أمر يتعلق في جانب أساس منه بغياب الديموقراطية من الحياة السياسية والثقافية العربية عموماً، ما يدفع الخلاف – حتى في مسائله الأساسية – نحو آفاق العصبية والتأثيم، وسرعان ما نجد أنفسنا أمام حملات مكارثية جديدة، يتراشق خلالها المثقفون التهم، ويندفعون لمحاكمات لا تورث الثقافة إلا المزيد من التشنج والمهاترات. نعم، هناك من تواطأوا مع قمع معمر القذافي لشعبه. ونعم، هناك من نالوا أعطيات العقيد على تدبيج مقالات «نقدية» عن فتوحاته الفنية في عالم القصة. ونعم أيضا، هناك من قَبِلَ ب «جائزة القذافي» للإبداع الأدبي، بعد أن رفضها كاتب غير عربي يحترم نفسه وثقافته والقيم الإنسانية... لكن هؤلاء شيء آخر، لا يجوز بحال أن تكون المطالبة بإدانة سلوكهم ومواقفهم باباً لتأثيم كلّ من زاروا ليبيا أو شاركوا في مناسبة أدبية، بل إننا نتذكر أن آخر مؤتمرات اتحاد الكتاب والأدباء العرب عُقد في طرابلس، وزار خلاله المؤتمرون خيمة العقيد في ثكنة العزيزية، المدججة بالسلاح، والتي تنطلق منها اليوم كتائبه الأمنية لتمارس مذابحها الهمجية ضد المواطنين الليبيين العزل لسحقهم والقضاء على ثورتهم، وتأبيد حكم القذافي وعائلته. هو خيط رفيع نراه يفصل الحقيقة عن الفوضى، فالتسامح إزاء من ذهبوا وزاروا وشاركوا في مناسبات ثقافية ما، هو شيء آخر، لا يعني الصمت على من ارتكبوا خطايا سياسية وثقافية خدمت النظام القمعي المترنح اليوم. * كاتب فلسطيني