شكلت الروابط الاجتماعية والتاريخية السورية - التركية مخزوناً ايجابياً نأى بالعلاقات الاقتصادية بعيداً عن التوتر السياسي الذي كان يظهر بينهما في الأعوام الأخيرة بسبب ملفي الأمن والمياه. الأهم ان هذه الروابط كانت القاعدة التي يرجع اليها الطرفان كي لا تصل علاقاتهما الى مستوى المواجهة المسلحة، كما حصل في تشرين الاول اكتوبر الماضي عندما انتهت الازمة والتهديدات التركية وحشد القوات العسكرية على طول الحدود، بحل ديبلوماسي وتوقيع اتفاق امني في 20 من الشهر نفسه أدى الى استئاف اللقاءات الامنية لحل المشاكل بين البلدين، والانتقال بعد ذلك الى بحث تعزيز العلاقات الاقتصادية. وفي هذا الاطار زار نائب رئيس الوزراء السوري للشؤون الاقتصادية الدكتور سليم ياسين بين 22 آذار مارس الماضي و23 منه انقرة واجتمع الى رئيس البرلمان حكمت تشيتين ونظيره التركي حكمت اولوغباي ووزراء اخرين. وانتقل البلدان من تبادل الاتهامات الى الحديث عن "حسن الجوار" والمساهمة في "تحقيق السلم والاستقرار" في الشرق الاوسط انطلاقاً من تعزيز العلاقات الاقتصادية بينهما استناداً الى "العلاقات التاريخية"، والتركيز على التعاون التجاري بعيداً عن ملف نهري الفرات ودجلة وموضوع الحدود الشائكين. وأسفرت المحادثات عن توقيع "مذكرة تفاهم مشتركة" تحدد خطوات تطوير التعاون بين الطرفين، تضمنت الاتفاق على عدد من الخطوات هي: "أولاً، بذل كل جهد ممكن لرفع وتنويع التجارة بين البلدين، أي تبادل الوفود التجارية والاقتصادية لدرس امكان انشاء مجلس خاص لرجال الاعمال والاشتراك في المعارض التجارية التي تقام في أي من الدولتين. ثانياً، البدء بالمحادثات المتعلقة باتفاقية لتجنب الازدواج الضريبي وباتفاقية لتعزيز الاستثمارات لوضع اطار قانوني للعلاقات الاقتصادية في الوقت المناسب. ثالثاً، عقد لقاءات بين المسؤولين المختصين في وزارتي النقل والسياحة لمناقشة التعاون بين البلدين في هذين المجالين. رابعاً، ايجاد الطرق والوسائل لتفعيل الاتفاقيات في مجالات التعاون الزراعية والعلمية والفنية والتعليمية والثقافية". كما اتفق الطرفان عملياً على رفع مستوى التبادل التجاري الى اكثر من بليون دولار اميركي، بعدما انخفضت قيمة التبادل في الاشهر ال11 من العام الماضي الى نحو 546 مليوناً منها 282 مليوناً قيمة الصادرات السورية، بعدما تجاوزت 2.1 بليون دولار عام 1997. وكان لافتاً ان التبادل التجاري لم يتوقف سواء في الازمة السياسية في تشرين الاول الماضي او في ازمة نهاية العام 1997 عندما شهدت العلاقات السورية - التركية توتراً عالياً بسبب التعاون العسكري بين انقرة وتل ابيب والمناورات البحرية التركية - الاسرائىلية - الاميركية وشن دمشق حملة على التحالف العسكري ووصفه ب"المشبوه" وان المناورات "حلف معاد" لسورية. وكانت تلك الحملة جزءاً من مسيرة طويلة من الجمود بين البلدين بدأت ملامحه تتبلور في الأعوام الثلاثة الاخيرة، عندما توقفت انقرة عن الاجتماعات الوزارية الثلاثية إيران وسورية وتركيا الخاصة بشمال العراق في النصف الثاني من العام 1995 ثم تكرار الجيش التركي عملياته العسكرية في شمال العراق وابلاغ دمشق رفض انعقاد اجتماعات اللجان الامنية والمائية والحدودية وصولاً الى اعلان الاتفاق العسكري بين انقرة وتل ابيب في شباط فبراير 1996 وتبادل الزيارات والتنسيق الامني والاستخباراتي بين الطرفين. وعلى رغم انقطاع الحوار السياسي، فإن "حواراً اقتصادياً" كان يجري على قدم وساق سواء في مستوى التبادل التجاري الرسمي بين الحكومتين او الشعبي على طول الحدود البالغة اكثر من 830 كلم. اذ ان قيمة التبادل التجاري ارتفعت من 294 مليوناً عام 1990 منها 184 مليوناً قيمة الصادرات التركية الى 618 مليوناً عام 1996، ومن المتوقع ان تكون قيمتها تجاوزت ال700 مليون عام 1997. وبلغت قيمة الزيوت النباتية المستوردة اكثر من 70 مليوناً اضافة الى 85 مليوناً للخيوط التركيبية. وصار الميزان التجاري يميل لصالح دمشق في الأعزام الأخيرة بعدما كان يميل لصالح تركيا، إذ ارتفعت قيمة الصادرات السورية بين عامي 1995 و1996 من 285 مليوناً الى 310 ملايين منها 280 مليوناً صادرات نفطية. ولا تشمل هذه الارقام الصادرات الحدودية البالغة نحو 500 مليون دولار اميركي، مستفيدة من القانون التركي الذي يسمح باستيراد بضائع من الدول المجاورة مع خفض بنسبة 60 في المئة على الرسوم الجمركية شرط ان تكون من بلد المنشأ المجاور وتخصص 20 في المئة من قيمتها لتصدير منتجات تركية. وركز التجار السوريون على استيراد المازوت من الاسواق العالمية ونقله من الموانئ السورية بصهاريج الى الولايات الحدودية التركية، بعدما توقفت انقرة عامي 1996 و1997 عن استيراد المازوت السوري، وكانت استوردت 1260 طناً عام 1994 و191 طناً في العام التالي. وقال بارمكسيز المستشار التجاري في السفارة التركية في دمشق حسين ل"الحياة" ان قيمة الصادرات السورية بلغت عام 97 نحو 456 مليون دولار مقابل 282 مليوناً للصادرات التركية إلى سورية والتي انخفضت في الاشهر ال11 من العام الماضي الى 264 مليوناً مقابل 266 مليوناً قيمة ما استوردته انقرة من دمشق. ويعتقد مسؤولو البلدين بامكان تطوير التبادل التجاري والعلاقات الاقتصادية الثنائىة. ويطرح المستشار التجاري مشاريع طموحة مثل شراء الغاز السوري واستيراد الفوسفات السوري واقامة مشاريع مشتركة لتصنيع القطن. وقال إن رجال اعمال اتراكاً يتوقون الى تأسيس مشاريع استثمارية في سورية وفق القانون الرقم 10 للعام 1991، وذلك بعدما تجاوز انتاج سورية من القطن للمرة الأولى عتبة المليون طن العام الماضي. ويبلغ انتاج الغاز نحو 5.12 مليون متر مكعب يومياً ولا تزال عمليات الكشف مستمرة كان اخرها بئر "ابي رباح" بطاقة اولية تبلغ مليوني متر من أصل حقل كبير اضافة الى العقد الكبير الذي وقع اخيراً مع شركتي "كونوكو" الاميركية و"الف اكيتان" الفرنسية لاستثمار مشروع بقيمة 430 مليون دولار اميركي. وأشار بارمكسيز الى ان دمشق عرضت سابقاً مد انبوب من الغاز الى حلب شمال سورية على ان تكمل تركيا مد الانبوب إلى أراضيها. وكانت انقرة اقترحت مشروعاً لاستثمار الغاز بقيمة بليوني دولار بهدف استغلاله وجره الى تركيا في ضوء وجود توقعات حول ارتفاع الطلب التركي الى خمسين بليون متر في العام 2010 مقابل نحو 15 بليوناً تجر الان من روسيا الاتحادية والجزائر. وإضافة إلى العلاقات الثنائية، يستطيع كل بلد ان يشكل بوابة للبلد الاخر الى الدول المجاورة. وقال بارمكسيز: "كل بلد يمكن ان يلعب دور الجسر للبلد الاخر، فتكون تركيا جسراً للبضائع السورية كي تصل الى اوروبا، مقابل ان تصبح سورية جسراً للبضائع التركية كي تصل الى العالم العربي ودول الخليج". وزاد: "يمكن ان تكون الشركات السورية الفاتح للشركات التركية في الاسواق العربية، خصوصاً وان تركيا تصدر الى 150 دولة في العالم أكثر من ثلاثة آلاف صنف إضافة الى ان التجار الأتراك لا يستطيعون ممارسة المهنة بمهارة السوريين". وتابع المستشار التجاري: "يجب العمل على توسيع النشاط التجاري في المجالات كافة وليس التجارة الحدودية وحسب. إذ أن العلاقات التاريخية والقرب الجغرافي يضعان الاسس لتطوير العلاقة الاقتصادية". ولكن يبقى ملف المياه شائكاً بين البلدين لأن نهري دجلة 1950كلم والفرات 2800 كلم يشكلان المصدر الرئيسي للموارد المائىة لسورية، علماً أن الموارد السطحية - الدولية توفر 9.6 بليون متر مكعب من اصل اجمالي الموارد البالغ 9.9 بليون. ويأمل الجانب السوري ان يتم حل مشكلة المياه بعدما حلّ الموضوع الامني، عبر التوصل الى اتفاق نهائي ل"قسمة عادلة ومعقولة" للمياه. إذ أن الجانب السوري ينوه بالتزام انقرة الاتفاق المرحلي للعام 1987 وتصريفها اكثر ما نص عليه، لكن دمشق تريد اتفاقاً ملزماً طويل الامد وفق القوانين الدولية. ووقعت دمشقوانقرة عام 1987 اتفاقاً مرحلياً في شأن الفرات نص على تمرير تركيا ما يزيد على 500 متر مكعب في الثانية لسورية التي تحتفظ ب 42 في المئة منها وتمرر 58 في المئة الى العراق بموجب اتفاق ثنائي بدأ العمل به عام 1990. ويتخوف مدير دائرة المياه الدولية في وزارة الري المهندس عبدالعزيز المصري من ان انقرة تخطط لتقليص حصة دمشق وبغداد الى 350 ألف متر مكعب في الثانية، ذلك ان حجم تخزين السدود التركية في "مشروع تطوير جنوب شرقي الاناضول" غاب يبلغ 90 بليون متر مكعب أي أكثر بثلاثة اضعاف من طاقة نهر الفرات.