أنجزت اوروبا الغربية وحدتها الاقتصادية في مطلع هذه السنة 1999 وانتقلت الى البحث في ميدان اكثر حساسية وصعوبة هو هوية اوروبا في القرن المقبل، وطبيعة مؤسسات المجتمع المدني ودور المواطن فيها وعلاقتها مع الشعوب الاخرى. وبهذا المعنى فان الجاليات العربية تحتل حيزاً مهماً في هذه الهوية ويمكنها ان تؤثر مستقبلاً في سياسة اوروبا الموحدة. تنقسم موضوعات هذا الشأن الى ثلاثة ملفات كبيرة قيد البحث والتفكير. وفي كل منها يأخذ العرب نصيباً وافراً. 1 - الملف الاول هو ملف السياسة الاجتماعية اي ايجاد نموذج اجتماعي يوفق بين مصالح الدول الاوروبية المختلفة ويحفظ الامن الاجتماعي الداخلي في القارة. وفي هذا الاطار فان السياسات المطروحة تتفاوت وتتضارب بحسب المصالح والمشارب لكنها تتفق بدرجات مختلفة على ان التهميش الاجتماعي وما ينشأ عنه من اضطرابات وانعدام الامن، يفضي لا محالة، الى ضعضعة المشروع الاوروبي. وهذا التهميش يرمز الى الجاليات المهاجرة. 2 - الملف الثاني هو الملف الثقافي وينقسم الى شقين: الشق الخارجي يتمحور حول المحافظة على الثقافة الاوروبية في مواجهة الغزو الخارجي الاميركي تحديداً، والاستمرار في رعاية المجتمع للتراث الثقافي من عبث السوق التجارية. والشق الداخلي يعني ايجاد صيغة تؤلف بين الثقافات الوطنية وتكييفها مع الواقع المستجد. لذا يتعمق التباين حول ما اذا كانت ستكون اوروبا الموحدة متعددة الثقافات وفي هذه الحالة ما هو موقع الثقافة الاسلامية المستجدة على اوروبا وهل يتم اقرار مساواتها بالثقافات الاخرى وكيف تتعايش مع احكام مسبقة معادية للاسلام ومشحونة بكراهية المرحلة الاستعمارية دون تفاهم متبادل؟ 3 - الملف الثالث هو ملف السياسة الخارجية اذ لا معنى لبناء اوروبا دون سياسة خارجية مستقلة تكون بحجم طموحاتها وموقعها الاستراتيجي. وهذا الموضوع يطول العرب من ناحية وجودهم على حدود اوروبا الموحدة بكل ابعاد معاني هذه الحدود من استقرار سياسي واجتماعي واقتصادي، ومن ناحية الفيض الديموغرافي وأثر النزوح العشوائي الى البلدان الاوروبية. هكذا يدخل العرب تاريخ البناء الاوروبي من حيث لم يعملوا له او يهتموا به. ولعل الظروف التي جعلتهم في قلب معركة هذا البناء تطورت تلقائياً بحكم آلية النظام الاوروبي وقدرته على استباق المستقبل والتخطيط له. فألقت الظروف على عاتقهم مسوؤلية لا يسعهم ان يظلوا حيالها لامبالين فما هي هذه الظروف؟ نظراً لتشابكها وتعددها يستحسن تناولها من خلال بحث الجانب العربي في الملفات الثلاثة المطروقة سابقاً. اولاً الملف الاجتماعي: ان الحالة الاجتماعية التي تعيشها الجاليات العربية اليوم هي نتيجة ارث العلاقة بين اوروبا الاستعمارية والبلدان المستعمرة. فالبلدان الاوروبية المهدّمة في جحيم الحرب العالمية اخذت تتسابق لتشغيل الآلة الصناعية وبناء البنية التحتية بعد الحرب. ولجأت الى مستعمراتها تستورد المواد الاولية واليد العاملة الكثيفة بحكم حاجة الاقتصاد والتعمير. فلم تكن اليد العاملة في هذه المواقع اكثر من سلعة رخيصة خاضعة لعسف الشركات والقوانين التجارية الرابحة. وقد اضطرت اجهزة الدولة لتنظيم هذه القوانين عام 1945 بعد ان بدأت تؤثر على اليد العاملة الوطنية وعلى خرق التوزان بين النقابات وأرباب العمل. لكن هذا التدخل في مراعاة المصلحة الوطنية كان مصحوباً بوعي المصلحة الاستعمارية وضرورة استمرارها، ما اسفر عن تمييز الهجرات الاوروبية الداخلية الايطاليين، البرتغاليين، الاسبان والبولنديين… عن الهجرات من البلدان المستعمرة. ومن ناحيتها فان تلك اليد العاملة النازحة من الارياف دون اعداد مسبق لم تكن مهيأة للانخراط في تعقيدات القوانين الصناعية القاسية ولم تكن ترغب في ذلك بسبب ارتباطها بالارض والانتماء الوطني الملتهب في معارك لإزالة الاستعمار. فكان العامل المهاجر يقضي عمره بين المعمل وحجرته الصغيرة منتظراً قضاء سنوات من شيخوخته مع اولاده وعائلته في منزل بناه في البلاد. هذا الواقع الاجتماعي اخذ يتبدل مع استقرار المهاجرين في بلدان الهجرة وأفضى الى استقرار العائلة واندماج الاولاد في صميم الحياة الاوروبية جيلاً بعد جيل وانخراطهم في عجلة القوانين والضمانات الاجتماعية. وبسبب استفحال الازمة الاقتصادية والبطالة بدأ يتنامى شعور هذه الاجيال بالاجحاف وثقل الإرث المنقول عن آبائهم وعجزهم عن مجاراة الاجيال الاخرى سواء في التعليم او في سوق العمل. لكن هذه الازمة فتحت الطريق واسعاً امام اليمين المتطرف لخوض صراع ايديولوجي عنصري ضد وجود الهجرة وما اسماه الامتيازات الاجتماعية التي تحظى بها على حساب المواطنين. وفي هذا الجو المحموم تضخم ثقل اليمين المتطرف السياسي واخذ يهدد الاحزاب الديموقراطية الاخرى مما جعلها تأخذ موضوع الهجرة عنواناً بارزاً في وجودها السياسي. وأسفر ذلك عن قناعة في المجتمع بأن الهجرة هي مشكلة ناتجة عن المجتمع وليست مشكلة دخيلة عليه. وان المهاجرين اصبحوا جزءاً مكوناً من مكوّنات هذا المجتمع. وبدأ أهل الاختصاص يطلقون تسميات مختلفة على المهاجرين بشكل يبرز اندماجهم ويميّز ثقافتهم مثل تسمية "الجيل الناشئ من الهجرة" او "المسلمون الفرنسيون" او حتى "المسلمون العرب" …الخ. والحال ان الغالبية الساحقة من المهاجرين تعيش في احزمة البؤس وتغرق في البطالة وسوء التعليم، ما جعل مدنها الحجرية الباسقة قلاعاً محصّنة تسود فيها كل الشرائع ومحرّمة على سلطة الدولة وقوانينها. وفي الوقت نفسه يتمرد شباب "الجيل الناشئ من الهجرة" للخروج من هذا المأزق التهميشي متمتعاً بإقرار حق المواطنية وحق التعويض عن الاجحاف الاجتماعي والاستعماري الذي لحق بهم وبآبائهم. ان هذا الواقع الاجتماعي فرض على الدولة تجنيد اجهزتها الاجتماعية والخدماتية والتعليمية في مسعى للحد من ازمة البطالة والتهميش الاجتماعي. لكنها لم تستطع ايجاد آلية يمكنها ان تتطور تلقائياً وذلك لسببين: الاول هو ضخامة الاعباء والتكاليف في وقت تعزّ فيه استثمارات الدولة، والثاني ان الدولة في النظام الاوروبي تحكم بين جهات او قطاعات تمثل مصالح وتتفق على تحديد الاولويات مقابل تحملها مسؤولية المساهمة في الامن الاجتماعي والمشاركة السياسية. في حين ان المهاجرين لم يفرزوا بعد هيئة شرعية قادرة على تمثيلهم مثل هذه المسؤولية وهذا الموضوع ينقلنا الى الملف الثاني. ثانياً الملف الثقافي: باتت معظم الاحزاب الاوروبية الكبيرة متفقة على ان الجاليات المهاجرة اصبحت مستقرة وتشكل جزءاً لا يتجزأ من مكوّنات المجتمع، لكنها تتفاوت في نظرتها الى مستقبل هذه الجاليات ودورها في الانخراط الاجتماعي حسب ما تعتقده من امكانية تكيّف ثقافة هذه الجاليات الاسلامية مع الثقافة العامة والدولة العلمانية. وبصورة عامة يمكن ادراج هذه الاحزاب في ثلاثة تيارات كبيرة بغض النظر عن انتمائها السياسي بين اليمين واليسار. أ - التيار الاول وهو تيار اغلبية الرأي العام ينطلق من ضرورة ان تبرهن هذه الجاليات عن عزمها طرح المميزات الثقافية والاثنية التي تتنافى مع الأعراف والقوانين المرعية في اوروبا لكي تتمكن من الذوبان في المجتمع قبل ان يبادلها هذا المجتمع حق المواطنة الكاملة. ب - التيار الثاني يرى ان حل المشكلة الاجتماعية بفتح آفاق العمل والتعليم امام شبان الجاليات كفيل باندماجهم الكامل في المجتمع وان الدولة العلمانية يمكنها ان تشمل الثقافة الاسلامية شرط خضوع هذه الثقافة لقوانين الدولة وممنوعاتها. ج - التيار الثالث ويتألف في معظمه من الليبراليين والليبراليين الجدد يعتقد ان المجتمعات الاوروبية يمكنها استيعاب ثقافات متعددة على غرار الولاياتالمتحدة الاميركية وذلك بالاعتراف بحق التجمعات الثقافية والاثنية وحق ممارسة طقوسها بما لا يؤثر على القوانين والامن العام. ان هذه التيارات الثلاثة لا تلبي طموح الجاليات ولا تزيل من امامها حواجز التمتع بحق المواطنية الكاملة لان واقعها الاجتماعي يتطلب رعاية من جهة وادراج ثقافتها بين الثقافات الاخرى من جهة ثانية. فالدولة العلمانية عندما فصلت بين السياسة والكنيسة كانت الكنيسة قادرة على الاستمرار في اداء دورها نتيجة امتدادها وتنظيمها وقدرتها الاقتصادية ايضاً وهي ما زالت تقوم بأداء هذا الدور على اكمل وجه وتنسج علاقاتها مع النسيج الاجتماعي بكل فئاته من موقع السلطة المعنوية الكبيرة التي تتمتع بها. لذا استطاعت ان ترعى المهاجرين الاوروبيين في بداية القرن وتشملهم بعناية خاصة سهلت اندماجهم واستطاعت ايضاً ان تشمل المسيحيين من بلدان العالم الثالث لاحقاً. ومثل هذه الرعاية لا يمكن ان تتوفر للمسلمين في اوروبا الا عن طريق المساعدات الخارجية وهذا ما تحاول الدولة الحدّ منه مخافة التأثير السياسي الخارجي، او عن طريق الدولة نفسها وهذا ما لا يدخل في اعراف الدولة العلمانية ويغيّر من حرصها على عدم الاهتمام بالشؤون الدينية. نتيجة هذا الواقع الصعب لم تستطع الجاليات الاسلامية بلورة هيئة تمثيلية روحية قادرة على فرض شرعيتها الثقافية، كما لم تستطع فرز هيئة او هيئات مدنية قوية نتيجة لواقع آخر. اذ ان العقدين الاخيرين انتجا جيلاً من المتعلمين والمكافحين الذين تبوأوا مراكز وسطية في اجهزة الدولة والشركات الكبيرة والمهن الحرة. كما ان هجرة المتعلمين الحديثة من البلاد العربية زادت في تدعيم هذا الجيل الجديد. لكن بحكم هذا الموقع فان هذا الجيل يترك مدن حزام البؤس ويتشرذم في طول البلاد وعرضها قاطعاً حبل الوصل الذي يربطه بالجسم الاجتماعي. وهو لم يزل قاصراً على تنمية طموحاته واشتداد ساعده بحيث ينفتح امامه الدور التمثيلي او الدور السياسي. ثالثاً الملف السياسي: اذا كانت الدول الاوروبية مهتمة باندماج الجاليات العربية في مجتمعاتها فليس ذلك نتيجة المشاعر الانسانية العاطفية بل لأسباب سياسية واستراتيجية. فالبلاد الاوروبية تعاني اليوم من ازمة الولادة وزيادة عدد السكان ما يترك آثاراً بالغة على الانتاج والدورة الاقتصادية واذا بقيت هذه الازمة قائمة الى سنة 2020 سيكون على العامل المنتج تقديم راتب التقاعد الى عاملين ينعمان بالرعاية الطبية وحياة الشيخوخة الطويلة فضلاً عن رعاية الاولاد قبل سن العمل، لذا سيكون على البلدان الاوروبية ادخال خمسين مليون عامل منتج من بلدان العالم الثالث واوروبا الشرقية الى اوروبا الموحدة ولكي تستطيع هذه الملايين المتزايدة القيام بأعباء الانتاج العالي التقنية تقوم اوروبا الموحدة باعدادهم في بلادهم بما يتطلب ذلك من برامج تعليمية وتأهيل مهني بكلفة يقدرها الخبراء الاقتصاديون ب 1 في المئة من الدخل القومي اي 63 بليون دولار في السنة وهذا يتطلّب حداً ادنى من الاستقرار السياسي والامن الاجتماعي في تلك البلدان خوف نزوح الفيض الديموغرافي الى جنة الاستقرار مما يفرض الاهتمام المتبادل بين طرفي الحدود والتنسيق السياسي والاقتصادي. ان هذا الاتجاه المستقبلي القريب ما زال قيد الاعداد في مختبرات الاقتصاديين وذوي الاختصاصات الاجتماعية والسياسية ويحول من ظهوره الانهماك في ترتيب البيت الاوروبي الموحد السياسي والاجتماعي. وهذا البيت الداخلي يتسع لمشاركة الجاليات العربية المقيمة في اوروبا والادلاء بدلوها. وهي ان لم تستطع بلورة هيئاتها التمثيلية الثقافية والاجتماعية الا انها قادرة على التأثير في الحياة السياسية العامة عن طريق مشاركتها في الاقتراع وفرض ثقلها الانتخابي، فهي تتمتع بوزن يتجاوز 12 مليوناً من الاصوات في اوروبا ويمكنها ان تجذب اليها الاحزاب السياسية الكبيرة والممثلين المحليين للاهتمام بشؤونها المحلية والعامة وتضطر هذه الاحزاب لمراعاتها في التمثيل السياسي واخذ مشاعرها بعين الاعتبار في نظام سياسي يقوم على العلاقة بين الناخب والمسؤول. وقد ترجم هذه العلاقة أحد أشد الديموقراطيين يعقوبية هو وزير الداخلية الفرنسي جان بيار شوفنمان بترشيح "ناشئ من الهجرة" لقيادة حملته في الانتخابات الاوروبية. موقفان متباعدان من رسالة شارل ديغول الى وزير العدل في 12 حزيران يونيو 1945 "من الآن وصاعداً من المهم ان يكون حق الجنسية متكاملاً حسب التوجيهات العامة. ويتوجب الانتباه بشكل خاص الى ملاءمة خيارات اختيار الافراد ليس حسب الملفات الفردية بل حسب المصلحة الوطنية في الميادين الاثنية والديموغرافية والمهنية والجغرافية. أ - في مجال الاثنيات يفترض الحد من فيض الشرق اوسطيين والشرقيين، وهم بدّلوا تشكيلة السكان الفرنسيين منذ نصف قرن… نتمنى ان تكون الافضلية للشماليين من البلجيكيين والسويسريين والهولنديين …. من خطاب وزير الداخلية جان بيار شوفانمان في مؤتمر حزبه حركة المواطنين في 5 شباط فبراير 1999 "انني أدعو حركة المواطنين ان تأخذ المبادرة على رأس حملة واسعة النطاق من اجل حق المواطنية ويجب علينا ان نتوجه الى مشاركينا السياسيين والنقابيين والجمعيات لكي نقوم معاً بدور مشترك لمساعدة هذا الجيل لا سيما الجيل الناشئ من الهجرة، لكي ينجح في محيطه الاجتماعي والمهني ولكي يتحمل مسؤولية نشيطة في الحياة المدنية بأن يعبّر عن نفسه ويتحمّل المسؤولية ويصبح مواطناً كاملاً… علينا انشاء حركة للحقوق المدنية وفق النموذج الجمهوري تجمع كل المواطنين من دون تفرقة في اصولهم يكافحون جنباً الى جنب من اجل المساواة والتعاضد الاخوي…".