اعتاد مفكرون اسرائيليون، مثل المفكر الراحل جاي. إل. تالمون، المجادلة بانه حالما يتحقق السلام فان اسرائيل "ستنتقل الى التعامل مع مشاكل اكبر"، أي معالجة مشاكل داخلية كبيرة بدلاً من تكريس الاهتمام كله لمجرد البقاء. وتحققت نبوءتهم في اعقاب اتفاقات اوسلو، وذلك على رغم الوتيرة البطيئة لعملية السلام التي وصلت في وقت لاحق الى مأزقها بفضل نتانياهو. هكذا، اُطلقت في المجتمع المدني طاقات مكبوتة، تجلت في جدالات حيوية ونزاع صاخب حول قضايا داخلية محورية - فهذا هو اسلوب الديموقراطية في معالجة الامور. اولاً وقبل كل شيء، هناك قضية الدين والدولة، الذي وصل الصراع حولها الى ذروته في التظاهرة الجماهيرية التي نظمها اليهود الارثوذكس المتطرفون اخيراً في القدس للمطالبة بفرض ال "هالاخا" التي توازي الشريعة لدى اليهود كقانون ملزم، والوقوف ضد المحكمة العليا التي تؤيد التشريعات "المرتدة" أي العلمانية التي يصدرها الكنيست. ثم برز الى الواجهة اصلاح النطام الانتخابي، وهي فكرة كانت موضع نقاش منذ وقت طويل يرجع الى عهد بن غوريون، لكنها لم تعالج ابداً في الواقع. وكانت حصيلة هذا الجدل وهي حصيلة كارثية، حسب اعتقادي إقرار قانون الانتخاب المباشر لرئىس الوزراء. كما تلوح بقوة مشاكل التعددية الثقافية، وهي تتركز على تحدي هيمنة الثقافة الاشكينازية ذات التوجه الغربي وإيجاد مكان للمكونات الشرقية والروسية والعربية في التعليم والفنون والادب، وغيره. ومن نافلة القول ان هذا كله ينعكس في الحملة الانتخابية الحالية. ومع ذلك، هناك غياب كبير، في النقاش العام والحملة الانتخابية على السواء، لقضية التفاوت المتزايد في الدخول والملكية وما يترتب على ذلك ايضاً من تفاوت على صعيد الخدمات، وفي الفرص الاجتماعية بشكل عام. من المفيد الاطلاع على شيء من الخلفية التاريخية. فنظراً للشح النسبي للموارد والدور المهم للقطاع العام 75 في المئة من اجمالي الدخل القومي ونفوذ نقابات الهستدروت في مواجهة ارباب العمل، وامتلاك الهستدروت تعاونيات وصناعات وخدمات طبية واسعة كوبات هوليم - بسبب هذا كله، كانت اسرائيل منذ وقت طويل بلداً يتمتع بمساواة نسبية على رغم انه لا يزال رأسمالياً، على مستوى مكافىء تقريباً للبلدان الاسكندنافية. وكان يمكن بالفعل تلمس بعض التدهور في المساواة خلال سنوات الركود في منتصف الستينات بسبب تفشي البطالة. لكن امكن عكس هذا الاتجاه خلال الفترة من 1967 الى 1976، عندما جرى تمرير تشريعات اجتماعية واسعة التأمين للعاطلين عن العمل والمسنين، وضريبة دخل اكثر تدرجاً. ويعود الفضل في ذلك بدرجة كبيرة الى جماعة ضغط اجتماعية مارست تأثيراً قوياً على اعضاء الكنيست، وكانت تتألف في الغالب من اعضاء في حزب العمل وناشطين من اليسار المتطرف تجدر الاشارة الى انها لعبت هذا الدور على رغم الموقف اللامبالي لرئيسي الوزراء في تلك الفترة، غولدا مائىر واسحق رابين. كانت النتيجة اننا اذا استندنا الى ما يُعرف ب "معامل جيني" الذي يقيس بوحدات عشرية توزيع الدخول بعد استقطاع الضريبة، فانه بلغ 22،0 في 1976 - أي ما يعادل تقريباً مستواه في السويد. في السنوات اللاحقة اصبح الوضع أسوأ: بلغ 31،0 في 1986 في عهد شمعون بيريز، و 33،0 في 1991 في عهد اسحق شامير، و 34،0 في 1994 في عهد رابين، و 36،0 في الوقت الحاضر. فانتقلت اسرائيل الى وضع من التفاوت الاجتماعي والاقتصادي يوازي مستواه في الدول الصناعية الخمس التي تعاني اكبر قدر من اللامساواة. ماذا حدث؟ في أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات، اُطلقت عملية توسيع الفوارق على يد سيمحا ايرليخ، وزير المال في حكومة بيغن، الذي كان احد اتباع نظرية ميلتون فريدمان الاقتصادية قدم فريدمان شخصياً المشورة للحكومة لمدة قصيرة: خُفض الدعم الاجتماعي، وخُفّفت القيود المفروضة على العملة الاجنبية ما جعل الاثرياء يسعون نتيجة ذلك الى ملاذات آمنة من الضرائب خارج البلاد. واقترن تشريع هذا كله بتجاهل تام لتصاعد معدل التضخم الناجم عن الاستيراد بسبب ارتفاع اسعار النفط والغاز، وهو تضخم أدى الى تآكل في القيمة الحقيقية للرواتب خصوصاً بالنسبة لموظفي الحكومة، وخفض قيمة التحويلات المالية، وجعل ضريبة الدخل تتناقص اكثر مع تعاظم الدخل. وساهمت اكلاف حرب لبنان بالتأكيد في زيادة الامور سوءاً. وكان يُفترض بنجاح "خطة حفظ التوازن"، التي تبناها بيريز في تموز يوليو 1985، في كبح التضخم من 400 في المئة الى 21 في المئة في غضون بضعة اشهر ان يؤدي وهو ما حدث بالفعل الى حد ما الى وقف تآكل الدخول الثابتة في المقام الاول للمراتب الدنيا والمتوسطة من الموظفين. لكن جزءاً من اتفاق المساعدات مع البنك الدولي، الذي منح الحكومة قروضاً تسهيلية لدعم "خطة حفظ التوازن"، كان ينص على تقليص انفاق القطاع العام واطلاق عملية خصخصة. فتراجعت حصة القطاع العام في اجمالي الناتج القومي من 62 في المئة عام 1989 الى 55 في المئة عام 1997. وكان 66 في المئة من القوة العاملة الصناعية في 1984 تعمل في مؤسسات خاصة بينما كانت البقية تعمل في مشاريع القطاع العام او مشاريع تابعة للهستدروت. وبعد ذلك ب 12 سنة ارتفعت هذه النسبة الى 84 في المئة. وكانت الصناعة الخاصة - التي تعتبر محرك النمو تذهب ثلثي منتجاتها الى التصدير - تمتاز بنفوذ اقل للنقابات، معتمدة اكثر فاكثر على العقود الشخصية وعلى التعاقد الخارجي وقوة العمل الموقتة بدلاً من الاتفاق الجماعي بين ارباب العمل والنقابات الذي كان حتى ذلك الحين مقدساً تماماً - وذلك حسب نموذج عززته الحكومات مستلهمة ما يسمى بالمعجزة الثاتشرية. وفي الوقت نفسه، خُفض الدعم الحكومي للخدمات الطبية في عهود بيريز وشامير ورابين ونتانياهو. ولم تحافظ على قيمتها الفعلية تقريباً سوى مساعدات الضمان الاجتماعي التي تُدفع للعاطلين عن العمل والمسنين والفقراء، وذلك خوفاً من حدوث انفجار اجتماعي. وفي الفترة من 1990 الى 1996، شهدت اسرائيل نمواً اقتصادياً كبيراً ومتواصلاً 6 في المئة سنوياً بفضل هجرة 840 الفاً من الرجال والنساء ذوي التحصيل العلمي الرفيع والمبدعين من الاتحاد السوفياتي السابق. لكن النمو أدى الى توزيع غير متساوٍ للمنافع بسبب تزايد ضعف الهستدروت وتدفق "عمال ضيوف" يتقاضون اجوراً متدنية من رومانيا وتايلاند والفيليبين، والبطالة في صناعات النسيج المتدهورة حتى في الوقت الذي ازدهرت فيه الصناعات المتطورة والتكنولوجيا الاحيائية والالكترونيات بفضل الوصول الى اسواق شرق آسيا وشمال اميركا، فضلاً عن الاسواق التقليدية في غرب اوروبا. واستمر تقلص دولة الرفاه الاجتماعي دون انقطاع. واتجه الدعم الحكومي بسهولة اكبر الى المشاريع الجديدة التي تتمركز في منطقتي تل ابيب وحيفا الغنيتين بدلاً من مناطق الاطراف و "بلداتها الجديدة" الفقيرة التي تواصل انتاج الاحذية والثياب والمواد الغذائية الاساسية، واصبح عليها ان تواجه منافسة شديدة من جانب سلع ارخص وذات نوعية احسن مستوردة من اوروبا بموجب شروط اتفاق ابرمته اسرائيل مع الاتحاد الاوروبي ومن شرق آسيا ايضاً. وخلال السنتين ونصف سنة الاخيرة بدأ الركود الاقتصادي نتيجة لتعليق عملية السلام عملياً، الذي الحق الاذى بالسياحة والاستثمارات الاجنبية، وللأزمة في شرق آسيا. وتفاقم التفاوت الذي كانت "سنوات المعجزة" السبع السابقة عمّقته، وذلك بسبب ارتفاع البطالة التي اقتربت للمرة الاولى منذ ثلاثة عقود من نسبة 10 في المئة. لماذا يجري اذاً تجاهل مثل هذا التطور، الذي سيترك اثاراً وخيمة على المدى البعيد، في وسائل الاعلان والبرلمان، وكذلك في الحملة الانتخابية حالياً؟ السبب ان الغالبية الساحقة من السياسيين، ومن ضمنهم المرشحون الرئيسيون الثلاثة لمنصب رئيس الوزراء، بالاضافة الى معظم الصحافيين والمثقفين المعروفين، غُسلت ادمغتهم بشكل فاعل بما يُسميه الفرنسيون "الفكرة الواحدة"، أي ما يبشّر به ويطرحه كبار المسؤولين في وزارة المال و "بنك اسرائيل" بالاضافة الى الجامعات ومراكز الابحاث التي تدعي ان السبيل الوحيد لتحقيق نمو ثابت يكمن في تقليل تدخل الحكومة في السوق الى ادنى الحدود بما في ذلك عبر الانفاق الاجتماعي وتوسيع نطاق الخصخصة وتقليص الضمانات الاجتماعية. ولا تعارض هذه السياسة سوى حفنة من اعضاء البرلمان من حزب العمل وكتلة مريتس، لكنهم ضعفاء الى درجة لا تسمح لهم ان يمارسوا تأثيراً فعلياً على احزابهم ذاتها. ومن المستبعد، حتى في حال فوز باراك في الانتخابات، ان تُقبل اقتراحاتهم المتواضعة - مثل فرض ضريبة ضمان اجتماعي، حتى على ذوي الدخول التي تزيد على 6 الاف دولار شهرياً أي على الشطور الأعلى من الدخول، اخذاً في الاعتبار ان متوسط الراتب الشهري يبلغ 1500 دولار شهرياً، وضريبة حدّية على الشركات تبلغ حالياً 36 في المئة، مقابل 50 في المئة للعاملين بأجر. اما بالنسبة الى حزب "شاس"، الممثل الفعلي للفئات الادنى، فانه يفضل التأكيد على القضايا المتعلقة بالهوية والثقافة والحصول على تمويل لمدارسه الدينية التي لا تُعد الشباب لحياة منتجة. هكذا، الارجح ان يستمر التفاوت ويتعمق. * كاتب اسرائيلي.