ينقص الحرب اللبنانية عام واحد كي يمضي عليها ربع قرن وتدخل "اليوبيل" الفضي! ربع قرن؟ يصعب على اللبنانيين جميعاً ان يصدّقوا ان كلّ هذه السنوات عبرت وهم لا يزالون يحيون مأساة حربهم وما نجم عنها من أهوال وشجون. كأن الحرب حصلت بالأمس، الأمس القريب وليس قبل تلك السنوات التي انقضت بسرعة من غير ان تجعل اللبنانيين ينسون تماماً ما حصل. شبح الحرب ما برح يتردّد ولكن لا ليحرّض الضحايا على "الجزّارين" وإنما ليهيم وسط الخراب الذي لا يزال كبيراً وهو خراب في الروح والذاكرة أكثر مما هو في الواقع. فأنقاض الحرب أزيلت والدمار الذي حلّ سوف تنهض على بقاياه مدينة أخرى وشوارع وأسواق... يصعب على اللبنانيين ان ينسوا اليوم المشؤوم: 13 نيسان 1975. بل هم على ما يبدو - يصرّون ألا ينسوا اليوم الذي بدأت فيه "حربهم". وأقول حرب اللبنانيين على الرغم من انها كانت ايضاً حرب الآخرين أو حرباً لبنانية شارك فيها الآخرون أياً كانوا. فالآخرون - كي لا أقول الغرباء - سرعان ما أصبحوا أهلاً في لبنان حتى وإن لم يعترفوا هم بهذا الانتماء أو إن لم يذوبوا فيه. يتذكّر اللبنانيون هذا اليوم بأسى كبير فهو كان فاصلاً حقاً بين ماضٍ وحاضر، بين مدينة وأخرى بل بين عالم وآخر. لقد جعل هذا اليومُ الواقعَ ذكرى واقع والحاضر ذكرى ماضٍ كان ولّى الى الأبد. وعلى عتبة هذا اليوم سقطت كل الآمال والأحلام التي طالما راودت اللبنانيين الذين اختاروا الحرب كجواب أخير على كل الاسئلة التي طرحت بالحاح. فالمأساة لاحت في سمائهم منذ ان صعد أول عمود دخان. وكان عليهم ان ينتظروا طوال تلك السنوات ليدركوا ان الصفة الأهلية تنطبق أكثر ما تنطبق على "مأساتهم". فان لم تكن الحرب أهلية في معنى ما فالمأساة كانت أهلية حتماً. واللبنانيون هم الذين حلّ عليهم الخراب الذي لا يخلو من "اللعنة" القدرية في مفهومها الأغريقي. ربما بات الكلام عن الحرب اللبنانية مدعاة للسأم والملل من فرط ما أعيد واستعيد، لكنّ كل ما قيل في الحرب يبدو كأنه لم يفِ الحرب حقّها حقها أجل! فالحرب ما برحت تحتمل المزيد من الكلام مهما اختلف أؤ تناقض! ويشعر اللبنانيون أنهم قادرون على الكلام عن الحرب من دون حيرة أو تلبّك أو تردّد. فالكلام عنها لايقتصر عليها كوقيعة أو كساحة للمعارك والهزائم والانتصارات ولا يقتصر على أبعادها السياسية المعقّدة ولا على خلفياتها الخفية! بل هو كلام عما قبل الحرب وعمّا بعدها. كلام عن لبنان الذي كان في الماضي القريب وربما البعيد ولبنان اليوم، لبنان المدمّر "داخلياً" واجتماعياً وسياسياً. واللبنانيون "القدامى" الذين عرفوا لبنان ما قبل الحرب يتكلّمون عنه بحنين مستعر وشوق ولهفة متناسين كلّ الأزمات التي عصفت به والتي أدّت - ربما - الى تلك الحرب الجحيمية. لبنان ما قبل الحرب يبدو من خلال كلامهم فردوساً مفقوداً، أرضاً ساحرة هي "أرض العسل والبخور" كما عبّر مارون بغدادي في أحد أفلامه بل وطناً لا يتكرّر. أما الاجيال الجديدة فيحلو لها الكلام عن لبنان الحرب وما بعدها، في بشاعته وخرابه ومأساته المستمرّة وتأسف الاجيال هذه على عدم معرفتها الماضي الذي لا تسمع عنه غالباً الا المديح. وبين هذين "اللبنانين" ينهض لبنان ثالث هو لبنان الحقيقة والوهم، لبنان التاريخ والحاضر، لبنان الخرافة والواقع. ولطالما التبست "معاني" هذا الوطن واختلفت وعليها اختلف اللبنانيون. وعوض ان توضّح الحرب "الأهلية" هذه "المعاني" زادتها غموضاً وتعقيداً. 17 نيسان 1975: يوم يصعب على اللبنانيين أن ينسوه: كيف ينسى شعب جرحاً عميقاً في روحه وجسده لم يندمل وعمره بات يقارب ربع قرن؟