خالد البسام إعداد وترجمة. صدمة الاحتكاك - حكايات الإرساليات الاميركية. في الخليج والجزيرة العربية 1892-1925. دار الساقي. 1998. 203 صفحات. قدر الشرق أبداً - بكل خصائصه ومميزاته - أن يكون هدفاً أساساً للغرب يحاول الغربيون تحقيقه بشتى الأساليب والوسائل، وقدره ان يكون ضعيفاً بانعدام تماسكه الداخلي الذي يسهّل على هذا الغرب اختراقه لتحقيق ما يصبو اليه. ومن هنا مصدر هموم ومتاعب الشرقيين التي لا تنتهي... الكتاب الذي بين أيدينا "صدمة الاحتكاك"، يحمل بين دفتيه نصوصاً أعدّها وترجمها الكاتب البحريني خالد البسام وهي عبارة عن مجموعة مقالات لافراد الإرسالية الاميركية كانت بمثابة تقارير كتبها هؤلاء المبشّرون والاطباء رجال ونساء يحكون فيها الى باعثيهم عما عاينوه وخبروه بأنفسهم وما واجهوه في مغامراتهم، التي كانت رحلات عديدة الى هذا الجزء الغني والكبير من الشرق الأدنى أو كما أسماه أحدهم منذ زمن بعيد "الأوسط". فهذا الكتاب بتقاريره الكثيرة يبيّن مدى اهتمام الغربيين بهذا الشرق ويُفصح عما يريدونه من هذه الارض الغنية بناسها وطبيعتها حتى قبل اكتشاف نفطها الذي اشتهر بصفته ذهباً أسود. والسؤال هو هل كانت هذه الارسالية ومثيلاتها في البداية "أضواء كاشفة" تمهّد للوصول الى السائل المعادل لماء الحياة؟ بعد هذه المقدمة يجدر بنا ان نتكلم عما يسمّى فن أدب الرحلات الذي عُرف في التاريخ وكان دائماً نتيجة دوافع عدة. ان هذا الأدب يقوم على السرد القصصي وكثرة الشهادات المدوّنة التي تتناول التاريخ والجغرافيا والاجتماع ويعتمد على الملاحظة والوصف ورواية الاخبار والنوادر بالنثر المرسل. وهذا الأدب يتعلّق بالتاريخ من حيث هو يتمّ في حقبات زمنية تاريخية معينة، وتعلّقه بالجغرافيا يكون من اهتمامه بطبيعة الارض المجتازة الى الارض المقصودة. أما إحاطته بالاجتماع فتكون بتناوله الحياة الاجتماعية للمجتمعات التي يصل اليها الرحالة وتبيان طرق معيشتها. وبما ان كل عمل انساني رفيع يدخل ضمن نطاق الادب الخلاق يتّسم بفنّيته الخاصة، لذا أدرج هذا العمل الأدبي في خانة الفن فقيل فن أدب الرحلات. أما لماذا أدب الرحلات هنا ونحن بصدد هذا الكتاب، فلأن جميع نصوصه بشكلها ومضمونها تنضوي تحت هذه التسمية إذ هي تحمل تماماً ماهية هذا الفن القصصي القائم أساساً على ركيزتين رئيسيتين هما: السرد والوصف. أربعون تقريراً كان قد نشرها اعضاء الإرسالية الاميركية في مجلة خاصة حملت عنوان "الجزيرة العربية المنسية". هذه التقارير التي حوّلها الكاتب العربي، البسّام، إلى حكايات عربية لعدم ارتكازها على قواعد فنية قصصية بلغة قوية سلسة وترجمة أنيقة قد شكّلت سرداً نصّياً بأسلوب صحافي سهل وتواصلية نثرٍ مُرسل هو الذي يكوّن مادة أدب الرحلات عموماً. فقد نقلت لنا بتحليل ووصف دقيقين عالماً كاملاً نابضاً بالحياة من جميع جوانبه. في رحلاتهم الكثيرة الى هذا الجزء من الشرق بعد ان عقدوا النيّة على اكتشافه، حمل اعضاء الإرسالية الأميركية عدة عملهم وقوامها الإنجيل والكتب المسيحية وصناديق الأدوية. وبوصولهم الى ارض الخليج والجزيرة العربية اتخذوا من مدينتين كبيرتين مركزين رئيسيين ونقطتي انطلاق وعودة من والى باقي المدن والقرى المجاورة والبعيدة. فالمركز الاول كان في البحرين بعد ان تمكّنت الإرسالية من الحصول على قطعة أرض كبيرة بَنَتْ عليها كنيسة ومستشفى ومباني سكنية ومدرسة. والمركز الثاني كان في البصرةالمدينة التي ظلّت لسنوات طويلة المركز الرئيس لعمل الارسالية ونشاطها. لقد سلك هؤلاء الارساليون الاميركيون في تنقلاتهم ورحلاتهم طريقين: مائية في البحر وفي النهر على ظهر بواخر كبيرة وقوارب صغيرة. وبرية على الحمير والجِمال على تضاريس اختلفت ضيْقاً واتّساعاً في العلوّ والإنخفاض. لقد كانت هذه التنقلات والرحلات المكوكية دينية تبشيرية بلباس طبابي مساعداتي وقد دامت نحو ثلاث وثلاثين سنة زار خلالها هؤلاء الاميركيون معظم مناطق الخليج والجزيرة العربية وكانوا يدوّنون مشاهداتهم وملاحظاتهم عما خبروه وتعرّضوا له في شكل مذكرات يومية حملت أوصافاً تفصيلية عن كل ما أحاط بهم واخباراً وقائعية للبيئة التي عايشوها، شارحين أوضاع ناسها ومالهم من عادات وتقاليد وما يحملون من معتقدات مدوّنين الى جانب هذه أوضاع الارسالية نفسها ونشاطاتها و"المشكلات" التي صادفتها. وبمسحة انطباعاتهم الخاصة مسح كاتبو هذه التقارير تقاريرهم التي صوّرت لنا الأرض "المُكتشفة" بغالبيتها التي كانت مناطق متفرقة آنذاك وليست دولاً موحدة كما نعرفها اليوم، لوجودها مسرحاً مُعاثاً به بالتعاقب وبالتداخل أحياناً لوقوعها في قبضة الاحتلالين العثماني والبريطاني، ومن ثم دخول الاميركان تحت ذريعة انسانية طبية. فصور هذه المقالات/ التقارير مستمدة من طبيعة الحياة العربية الخالصة. فالصحراء والبدو سلطان ورعية والخيام والقوافل والجمال والقهوة حسب التقاليد العربية الخ... لقد حمل هذا الكتاب تاريخاً كاملاً لأرض وشعب بحالاته الثلاث الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في حقبة زمنية استعمارية. كان للعقيدة فيه قوة الصدم الحقيقية التي أظهرت الاختلاف الكبير بين ما يريده هؤلاء الإرساليون وبين ما هم عليه المسلمون على ارضهم التي حملت يهوداً عملوا كعادتهم على صبّ الزيت على النار. إن الوقائع التي التحمنا معها هنا ساهم هؤلاء الرحالة الارساليون في خلق بعضها لوجودهم المتمثل بشقّيه الديني والطبي. إذ انهم رووا كيف كان استقبال الأهالي لهم بارتياح كبير في جانب وعدمه في جوانب اخرى. ان الإرسالية التي عرفت نقطة ضعف هذا المجتمع وهي حاجته الى الإستشفاء والتعليم قد نجحت الى حدّ بعيد في نشر تعاليمها بتأمين هاتين الضرورتين لغيابهما وطنياً في جوّ صحراوي جاف شديد الحرارة صيفاً وزمهريري شديد البرودة شتاءً. فالرافضون للاعمال التبشيرية المخالفة لديانتهم لم يدم رفضهم طويلاً بسبب من فتْك الجهل والأمراض بهم. من هنا كان بقاء الإرسالية طويلاً وتصرّفها حراً في غالب الأحايين. فالسلّ والجذام والطاعون والكوليرا والحمّى وامراض العيون والامراض الجسمانية الداخلية كلها قواتل يصعب تحملها وعدم المعرفة يؤدي الى الهلاك. لقد مات الكثيرون وعمي الكثيرون بسبب هذه الامراض فلجأ الناس الى مستشفيات ومستوصفات ومدارس الإرسالية التي جاءت تقاريرها حكايات معبّرة عن نفسيات سكان الخليج والجزيرة العربية، وذلك بوصف اشكالهم ولباسهم وأماكن سكنهم وأماكن عملهم على اختلاف أصولهم رجالاً ونساءً وأطفالاً تعرّضت لسلوكياتهم ومعتقداتهم وجهلهم وتخلّفهم في تلك الايام السوداء، فكان كل هذا صوراً صادقة لحياتهم التي زادها الاستعمار بوجوهه المختلفة بؤساً الى بؤس. وإلى اللوحات ذات الدلالة الاجتماعية الغنية، صوّرت لنا تقارير هذا الكتاب مشاهد طبيعية على اختلافها وبيّنت لنا طبيعة ارض الخليج والجزيرة في غياب الماء ووجوده. فكما اننا نجد صعوبة في المشي على الارض لالتهابها بحرارة الشمس الشديدة في الصحراء القاحلة، كذلك نجد في جزيرة أبي موسى الصخرية على طريق الشارقة مثلاً المراعي الهائلة والمياه العذبة، والعيون المنتشرة في القطيف بعدد ضخم وأكثر من مئتي عين تروي بساتين النخيل الموجودة في كل مكان تصبّ في أربعين جدولاً كبيراً الخ. ان كتاب "صدمة الاحتكاك" نصوص شواهد قد دلّت الى حد بعيد على ان هؤلاء المبشرين والمبشرات اطباء وطبيبات على معرفة كبيرة بطبيعة هذه الارض التي كانت مسرحاً للاحداث بينهم وبين سكانها الأصليين، لقد ألمّ هؤلاء الارساليون بدقائق هذا المجتمع العربي وعقلية اصحابه. هذا الكتاب يوثّق إشكالية الشرق والغرب من منظور ديني إيديولوجي، فصراع الأديان يظهر ويخفى والعرب يهيمون دائماً في الماضي ويتباهون به متناسين الحاضر بل متجاهلين إياه عمداً أو قسراً. وهذا المنطق قد لمّح اليه احد أطباء الارسالية الاميركية. ولعل شجاعة عرب الساحل ونشاطهم، يمكن ان يستشفهما الزائر "من عشرات المدافع الصدئة، التي يمكن مشاهدتها في مدن مختلفة، والتي تعبّر عن ذكريات الايام الماضية".