فتح مشهد التطهير العرقي في كوسوفو جروح الذاكرة الفلسطينية على مداها، لتقشعر أبدان الفلسطينيين وهم يعيشون مجدداً نكبتهم وهم يتابعون حرب البلقان عبر شاشات التلفزيون. ورأى الفلسطينيون الذين يشاهدون كل يوم شلال المبعدين والمهجرين من الألبان، أنفسهم وأجدادهم الذين هجروا قسراً من أراضيهم وبيوتهم في مثل هذه الأيام قبل 51 سنة، وبالتحديد أهالي قرية دير ياسين الفلسطينية التي نفذت فيها عصابات "هاغانا" الصهيونية مجزرة رهيبة طاولت النساء والأطفال والشيوخ، وكانت سبباً في خوف آلاف من الفلسطينيين من مواجهة المصير ذاته، وسبباً في نكبة اللجوء. "عندما رأيت الأطفال وهم يسيرون بين الجبال والوديان، رأيت نفسي وأنا في الثامنة من عمري أعود إلى البيت في اللحظة الأخيرة لأحمل شقيقي الذي لم يتجاوز عمره شهرين، وأحاول اللحاق بمئات من أهالي القرية هرباً من أعمال القتل التي كان يرتكبها أفراد عصابة الأرغون الصهيونية. كنت ارتجف من الخوف والبرد، وانظر خلفي لعلني أرى وجه والدتي التي ذهبت لتحضر لنا الخبز ولم تعد". كانت تلك كلمات فاطمة محمود أسعد 59 سنة التي شاركت في مسيرة "جنائزية" في الذكرى ال51 لمجزرة دير ياسين التي قتل فيها والدها وجدها وأولاد عمها الثلاثة وخالها. وأضافت: "لن أنسى وجه جدي وهو مضرج بالدماء، ملقى على باب المنزل بعدما قتلوه ولم يستطع أحد دفنه. تدافع الجميع للهرب بعدما هددنا اليهود عبر مكبرات صوت بالذبح إذا لم نغادر. وحضرت إحدى المعلمات لتأخذنا واخوتي السبعة وكنت ارتجف خوفاً، لكنني عدت لأخذ شقيقي الصغير محمود. اذكر نخز الشوك في رجليّ الحافيتين ونحن نهرب باتجاه بلدة عين كارم". وتابعت فاطمة، وهي تشد على يد حفيدتها دينا ثماني سنوات: "وجدت أمي لكنني لم أرَ وجه والدي بعد ذلك اليوم. قتلوه هو أيضاً". وللمرة الأولى سمحت السلطات الإسرائيلية للناجين من أهالي القرية بتنظيم مسيرة اتجهت نحو ما تبقى من مقبرة القرية، والتي تحول معظمها إلى شارع عريض في حي يهودي يسمى اليوم "جبعات شاؤول" أي تلة شاؤول، وما بقي من القبور التي لم تدفنها طبقة الاسفلت السميكة دمر معظمه. انطلقت المسيرة الجنائزية من مكان قريب من مدرسة دار الطفل العربي في القدسالشرقية، حيث ألقت العصابات الصهيونية قبل أكثر من خمسين سنة الناجين من المجزرة، تتقدمها شاحنة قديمة - مشابهة إلى حد كبير للشاحنات التي استخدمت لتهجير الفلسطينيين من مدنهم وقراهم عام 1948 - تحمل 93 نعشاً تمثل عدد الفلسطينيين الذين قتلوا في المجزرة في التاسع من نيسان ابريل من عام النكبة، وتلحقها الباصات التي تقل من بقي من الأجداد إلى جانب الآباء والأحفاد، تحاصرها سيارات الشرطة الإسرائيلية. وفي اللحظة التي توقفت فيها القافلة قرب محطة للباصات الإسرائيلية على بعد مئات الأمتار من موقع المقبرة لتبدأ المسيرة مشياً، شرعت الشرطة بإصدار الأوامر للموافقة على استمرار المسيرة: "عليكم السير على الرصيف فقط، غير مسموح بأكثر من خمسة نعوش، توقفوا عن الهتافات، لا بالروح بالدم ولا نفديك يا فلسطين هنا"، قال أحد الضباط الإسرائيليين بعربية مكسرة. وامتثل منظمو المسيرة لتهديداته وأنزلوا من الباص خمسة نعوش احدها لطفل، تاركين وراءهم بقية النعوش. لكن المشاركين في المسيرة وغالبيتهم من الشباب لم يلقوا بالاً للتهديدات وعلت الهتافات الفلسطينية في الحيز الضيق الذي سمح لهم به، تؤكد عروبة الأرض و"استمرار النضال حتى التحرير من حيفا إلى دير ياسين" في قلب الحي اليهودي الذي وقف فيه الإسرائيليون مشدوهين وكأنهم يرون أشباحاً. جالت "الحاجة" زينب عطية عقل 70 سنة نظرها في المكان بعدما ركعت وقبلت أرض المقبرة، وانسالت الدموع بصمت من عينيها وتمتمت: "أين انتما شقيقاي لتريا ما حصل لدير ياسين"؟ وتابعت تسرد تفاصيل ليلة المجزرة: "بدأوا عمليات القتل من الساعة الثانية والنصف فجراً حتى الساعة الثانية بعد الظهر، وبعدها جمعونا هنا قبالة هذا المكان. كنا نرتجف خوفاً وبرداً وعطشاً. كانت ليلة شديدة البرودة، ثم ادخلونا في بيت وهم يصرخون ويسألوننا: أتريدون ان نذبحكم مثل الدجاج أم نطلق النار عليكم أم نهدم البيت فوق رؤوسكم. بعد ذلك حملونا في شاحنات ورموا بنا في حي المصرارة. قتلوا والدي وشقيقيّ وخمسة من أفراد العائلة". نزل الأهالي شيباً وشباناً إلى المقبرة التي أحاط بها بعض أشجار اللوز المتبقية وباشروا وضع شواهد للقبور التي دمرت نقشت عليها اسماء بعض الموتى على ألواح من الرخام، وهم يعلمون "ان الإسرائيليين سيزيلونها، حين نغادر المكان" قال أحد الشبان. وردت إحدى الفتيات: "لكننا سنعود ونضع شواهد قبور جديدة". وقطف بعض الشبان حبات اللوز الأخضر وهم يرددون: "هذا لوز دير ياسين الذي لم يتسنَ لآبائنا قطفه في ذلك العام". وفي الفسحة الزمنية التي سمحت الشرطة الإسرائيلية للأهالي بالوجود فيها، عمل كبار السن قبل الشبان على تنظيف المقبرة ووضع أكاليل زهور كتب عليها "يبقى الأمل عندما نتذكر... دير ياسين في الذاكرة".