منذ شهور رحل عن عالمنا زعيم الخمير الحمر، بول بوت، بعد فترة قصيرة من اعلان القبض عليه، والعزم على محاكمته بتهمة اصدار الأمر بقتل ملايين الكمبوديين. ويبدو اليوم ان موت هذا الزعيم الغامض وضع حداً للقضية التي شغلت صحافة العالم طوال ما يقرب من عشرين عاماً. ومن المعروف ان قضية الاغتيالات الجماعية في كمبوديا كانت تفجرت في اليوم الأول من شهر نيسان ابريل 1979، وبالتحديد بعد اسابيع من سيطرة القوات الفيتنامية على هذا البلد الذي نادراً ما عرف استقراراً، والذي كان النزاع عليه قبل ذلك ثلاثي الاطراف: اميركياً - صينياً - وفيتنامياً. والحال ان سيطرة القوات الفيتنامية في بدايات شهر كانون الثاني يناير 1979، وجه يومها ضربة قوية للصينيين، بعد ان كان استيلاء الخمير الحمر - المدعومين من بكين - على فنوم بنه قبل ذلك وجه ضربة عنيفة للوجود الاميركي في المنطقة. من هنا فإن من الامور ذات الدلالة والأهمية ان نتذكر اليوم ان من "كشف" في ذلك اليوم الربيعي من العام 1979 عن "جرائم بول بوت وجماعة الخمير الحمر" ضد الشعب الكمبودي كان الفيتناميون انفسهم، وليس الاعلام الغربي كما ساد الاعتقاد بعد ذلك. حدث ذلك "الكشف" اذن، حيث اعلنت السلطات الكمبودية الشيوعية التي سلمها الفيتناميون السلطة في فنوم بنه، عن اكتشاف الادلة الملموسة على تورط الخمير الحمر في عمليات ابادة جماعية، وكان ذلك حين تم العثور على مقبرة جماعية بالقرب من مدينة ستانغ ترنغ الواقعة الى الشمال الشرقي من كمبوديا غير بعيد عن الحدود مع فيتنام. والمفارقة ان مدينة ستانغ ترنغ، التي حولها بول بوت وجماعته الى مقبرة كانت تعتبر واحدة من اجمل المدن الكمبودية. الناطقون الرسميون باسم السلطات الكمبودية الجديدة، اعلنوا اذن انهم عثروا في تلك المنطقة النائية، على اكثر من الفي هيكل عظمي، ربطت الى بعضها البعض بالحبال، وأثقلت بكتل من الحجارة، قبل ان تلقى معاً في قاع بحيرة في المنطقة. وبعد البحث في مناطق الغابات المجاورة تم العثور على المزيد من العظام والجماجم خلال الأيام التالية. وعلى الفور اعلنت السلطات الرسمية ان ما تم العثور عليه حتى ذلك الحين لا يمثل سوى نزر يسير من مجموع هياكل عظمية وجثث تعود الى مئات الالوف من المواطنين المفقودين الذين اما قتلوا بشكل مباشر، وإما اجبروا على العمل حتى التهلكة، او - في النهاية - قضوا جوعاً وعطشاً. وكانت الصور التي نشرت في ذلك الحين مرعبة حقاً ومنها الصورة المرفقة مع هذه النبذة والتي تمثل كمية من الجماجم والعظام التي عثر عليها في منطقة ستانغ ترنغ، وكانت فاتحة سلسلة اكتشافات لم تنته ابدا. بالنسبة الى السلطات الجديدة كان واضحاً ان القتلى هم ضحايا بول بوت والخمير الحمر، ولقد أتت شهادات ادلى بها الوف الباقين على قيد الحياة في المدن الصغرى والقرى لتؤكد على هذا. غير ان المشكلة الرئيسية التي جابهت السلطات في ذلك الحين كانت تتعلق بغياب اية معلومات او دفاتر مسجلة او شكاوى غياب رسمية، تفصح عن العدد الحقيقي لأولئك الذين سيقال ان قوات الخمير الحمر قد اجبرتهم على ترك بيوتهم ومدنهم والتوجه نحو الادغال، حين كان الموت في انتظارهم. ومع هذا فإن السلطات اعلنت ان لديها من المعلومات الأولية ما يفيد ان اسراً وقبائل وقرى بكاملها قد ابيدت بشكل أو بآخر. وان الباقين على قيد الحياة من افرادها هم من الرعب بحيث لا يجرؤون على العودة الى ديارهم، او حتى على التحدث الى السلطات الجديدة كما اصابهم وأصاب ذويهم. وفي جميع الاحوال، حتى ولو اخذنا الدعاية الرسمية التي اعتاد كل نظام جديد ان يثيرها ضد النظام القديم، في اعتبارنا، كان من الواضح ان ثمة مجازر كثيرة، عديدة الضحايا، وقعت في ذلك البلد. وكان من الواضح ان بول بوت ونظامه مسؤولان عنها، او عن جزء كبير منها على الأقل. وكان من الطبيعي لهذه الفرضية المنطقية، ان تؤدي الى توجيه الاتهام رسمياً الى بول بوت ونظامه في هذا الصدد. وبالفعل ما ان مرت شهور على بداية ذلك الاكتشاف حتى حوكم بول بوت ورهط من معاونيه، وحكم عليهم بالاعدام. لكن الرجل كان فرّ الى الغابات... وحين اعتقل بعد ذلك بعقدين كان اضحى عجوزاً على حافة قبره. وكان العالم نسي المجزرة الجماعية، حتى وإن كان الكمبوديون انفسهم عجزوا عن نسيانها.