عهد متصرفية جبل لبنان هو العهد الذي حمل الى الجبل اللبناني اولى المؤسسات الادارية الواضحة المعالم التي ستؤسس لممارسة فريق من اللبنانيين للنظم الادارية والمالية والقضائية والتمثيلية في جو من شبه الروح الاستقلالية في ظل الدولة العثمانية. وكان من الطبيعي، بعد جو التنظيمات ذات الروح الاوروبية التي بدأت تسري في عروق الدولة العثمانية، ان تدخل مؤسسة "البلدية" او ما عرف ب"القومسيون البلدي" الى دائرة التنظيمات الجديدة التي سيكون للبنان نصيب منها في ظل ادارة متصرفية جبل لبنان. كان يقع على عاتق هذه القومسيونات المبادرة الى اجراء ما يلزم لرفع وتيرة العمران والتنظيم المدني في المدن والقرى اللبنانية. وكان ظهور البلديات بعيد انطلاق نظام المتصرفية طريقاً لتطوير الممارسة العمرانية من جهة والسياسية من جهة اخرى، مع المشاركة في لعبة الحياة الديموقراطية. كان الفرق بين البلديات القائمة في ظل المتصرفية وتلك الموجودة في المدن الخارجة عن سلطة المتصرف هو خضوع الاولى حسب رأي المؤلف للمجلس الاداري اللبناني وارتباط الثانية بوزارة الداخلية العثمانية، اضف الى ذلك عدم خضوع بلديات المتصرفية لأحكام القانون البلدي العثماني مع التأكيد على وجود "تعليمات" خاصة ببلديات جبل لبنان. والبلدية، بحسب تعريف المؤلف، هيئة محلية، تتكون عن طريق التعيين او الانتخاب، وانحازت بالشخصية المعنوية "ذات الصفة العامة". اقتبسها ارباب التنظيمات عن النموذج الاوروبي، وظهرت في عهد السلطان عبدالعزيز. ومنذ العام 1867 بادر الولاة الى انشاء مجالس بلدية اعتمدت التنظيمات المطبّقة في العاصمة العثمانية، ولقد جاء دخول البلديات الى جبل لبنان بعدما طرحت اللجنة الدولية في 21 آذار مارس 1861، مسألة استحداث المؤسسات البلدية. وبرغم هذا الطرح لم تذكر نصوص بروتوكول 1861 اي شيء عن البلديات. ولكن ذلك لم يَحُل دون انتشار البلديات منذ عهد داود باشا، اذ بادر هذا المتصرف الاول، في 1864، الى انشاء "قومسيون بلدي" في دير القمر للاهتمام بالبلدة والسهر على نظافتها وترتيبها. فكان اول قومسيون بلدي من نوعه في جبل لبنان. وتكوّن المجلس البلدي من سبعة اشخاص معتبرين في البلدة. وكان للمجلس كاتب، ويجتمع كل يوم جمعة برئاسة مأمور دير القمر، ويستثمر المجلس بعض الاموال ويوظفها بالفائدة على ان تكون المصارفات من هذه الفوائد. ومع نجاح تجربة دير القمر، رأى المتصرف رستم باشا 1873 - 1883 الذي كان يهوى الاناقة والنظافة ان تنتشر البلديات في كل من زحلة وجونيه وجبيل والبترون وطبرجا والعقيبة وأصدر امراً بهذا الخصوص في 24 كانون الاول ديسمبر 1878 وكرّت سبحة البلديات بعد ذلك في انحاء لبنان. ويروي عبدالله الملاح مؤلف كتاب "البلديات في متصرفية جبل لبنان 1861 - 1918" الصادر حديثاً قصة المحاولات التنظيمية الاولى، وكيف ان المجلس الاداري لمتصرفية جبل لبنان اشترع، في 10 شباط فبراير 1879 قانوناً خاصاً كان ابرز ما جاء في مواده: - يتشكل المجلس البلدي من اعضاء تختارهم الحكومة بمعرفة مجلس الادارة من اوجه الاهالي، شرط ان يتألف القومسيون من الملاكين العثمانيين، وان تكون مدة خدمتهم 4 سنوات بدون معاش، ويصير تبديل نصف الاعضاء كل سنتين، ويكون لهم رئيس. - يجتمع المجلس بدعوة من رئيسه مرة او مرتين في الاسبوع وعند الضرورة. - يكون الرئيس والاعضاء مسؤولين عن حسن سير المعاملات، على ان يختاروا من بينهم كاتباً وأمين صندوق. - يسهر القومسيون على تطوير البلدة والاعتناء بالخير العام، والمحافظة على الصحة العامة، ومنع الذبح داخل البلدة، وتغطية اللحوم، وتنظيف الشوارع، وفحص الاوزان والمكاييل، وتنوير المحلات، ومنع الغش... - يقدم القومسيون كل ثلاثة اشهر دفتر حساباته الى مجلس الادارة. - تقوم ضابطة الاقضية بوظيفة مفتشي البلدية. - يمنع طرح الاقذار في الازقة والساحات، وجريان المياه القذرة وغير القذرة على الطرقات، واستعمال اواني نحاسية غير مبيّضة، وبيع اللحوم والاسماك الفاسدة والسمن المغشوش، ووضع الاحجار وأدوات البناء على الطريق العام، وترك لغم او قناة مكشوفة، واذا تعذّر ذلك في اليوم نفسه فيجب ان يوقد قنديل ليلاً حفاظاً على سلامة المارين. - يجتهد القومسيون في توسيع الازقة، وفي جعلها مستقيمة. هذا بعض ما جاء في قرارات القانون الخاص بقيام البلديات، وهو في بنوده الاخيرة المذكورة اعلاه يجعلنا نرثي لحالنا، اذ بعد مرور 120 سنة على ولادته لم يتغير شيء كثير في لبنان بالنسبة لضبط النظافة والغش والطرق غير المستقيمة. ويتطرق الباحث الى العملية الاجرائية التي صاحبت تطبيق هذا القانون الذي تطور عدد البلديات معه ليصل الى 35 بلدية في عام 1889. وهو يرصد تطبيقه في عهد المتصرفين المتلاحقين وكيفية تطوير التعليمات البلدية والتحول في المفاهيم والادوار وكيفية مراعاة التمثيل الطائفي والمذهبي والعائلي. ولقد بدأت البلديات تعيش مرحلة الاستقلال الذاتي، بعد مرحلة ترؤس القائمقامين للبلديات، عندما سمح لها بانتخاب رئيس من بين اعضائها. بعد هذه الاضواء التاريخية ينتقل الكاتب الى دراسة البلديات في عهد مظفر باشا متطرقاً الى اجراءات هذا المتصرف بحلّ المجالس البلدية المهملة ونزع الرئاسة من القائمقام او مدير الناحية والتحقيق الميداني وزيادة عدد البلديات واجراء التفتيش واعتماد مبدأ الاقتراع العام. ومن عهد مظفر باشا ينتقل الكاتب الى الفترة الممتدة من 1908 الى 1915 وما رافقها من نزاعات محلية وخلافات سياسية وما رافق ذلك من عودة الى مبدأ التعيين والصراع مع الاقتراع العام والمباشر والاهتمام بالمسألة اللبنانية مع المطالبة بفتح مرفأ لبناني ورفض تمثيل لبنان في "مجلس المبعوثان" والدعوة لإقامة عيد وطني وغير ذلك. ثم يبحث الكاتب في اوضاع البلديات في ظل الحكم العثماني المباشر 1915 - 1918. وينهي الكتاب بفصل عن الجهاز الاداري البلدي: المجلس، صلاحياته، سلطة الوصاية او الرقابة، الموظفون. ويختم الكتاب بملحق عن اللجان البلدية في 1889 و1906 وغيرها. لتحقيق هذا العمل الدقيق والعلمي اعتمد المؤلف محفوظات بكركي ومحفوظات بلديات كل من جونيه وغزير وكسروان، واستند الى غالبية ما نشر من كتب لها علاقة بموضوع البلديات ومنها عدة رسائل دبلوم جامعية نوقشت في كلية الآداب - قسم التاريخ - الفرع الثاني عن ارشيف بلديات جبل لبنان، ولكنه اهمل واحدة منها هي عن جزين. كما استند الى الجرائد والمجلات ك"الاتحاد العثماني" و"البشير" و"البرق" و"الحقيقة" و"الكلمة الحرة" و"جريدة لبنان الرسمية" و"لبنان المتصرفية" و"لسان الحال" و"المرسل" إلخ... أضف الى ذلك كتباً عن المتصرفية صادرة باللغة الاجنبية. في الواقع، هذه الدراسة عن موضوع محدد وعن حقبة محددة، هي في منتهى الدقة العلمية والموضوعية، يقدمها لنا مؤرخ شاب اشبع عهد المتصرفية دراسة في كتبه وأطاريحه الجامعية ومقالاته المشهود له فيها بضبطه لأصغر المعلومات وأدقها