- 1 - 17 شباط، صباح الأربعاء. ثلجٌ في برلين. أطلّ من نافذة غرفتي: لم أشهد في حياتي كلّها، كما يُخيّل إليَّ، صباحاً أجملَ من هذا الصّباح، ولم أرَ مشهداً للأشجار، أَخّاذاً ومثيراً كمشهد الأشجار في هذا الصّباح. خرجتُ. وحدي، تقريباً، في الشّارع، وأشعر أَنّني حَيٌّ، كما لم أشعر في أيّ وَقْتٍ مضى. كيف يكون الثلج رمزاً للموت، ومَن قال ذلك؟ إن صَحّ هذا، فإنّ للموتِ جمالاً آخرَ لا يقلّ بهاءً عن جمال الحياة. * * * السّماء تُولَدُ في أحضان شجرة. * * * ثَمّةَ أبراجٌ من البياض المشعّ تَتساقَطُ مِن أعالي الشَجر. * * * البحيرة سريرٌ ملكيٌّ أبيض. لم أكن أعرف أنّ البحيرة التي تُجاورني في برلين اسمها: ديانا. * * * حِزامٌ من الهواء، يضغط على جدائل الشّجر: ينزل منها مطَرٌ في خيوطٍ من الكُريَّات. * * * اليومَ، أَعطيتُ الشّتاءَ امتيازاً سرّياً آخرَ في حَلْقَةِ فُصولي. * * * لم أعرف، قبل اليوم، أنّ لي في ذاكرة الثلج مكاناً خاصّاً. * * * شعرتُ، اليومَ، أنّ لطفولتي في الثّلج بيتاً تهدّمَ، لا أعرفُ متى ولا كيف؟ * * * الفضاء نفسُه، يُطِّل من نوافذ الثّلج. * * * لا يَرْقَى الى بياض الثّلج، إلاّ ليلُ اللّغة. * * * عَامِلٌ في المدينة: غريبٌ كمثل غرابٍ في الثّلج أُحيّيكَ، أيّها الغريبُ المهاجر، الذي يغسل المدينةَ لابساً معطفَ الثلج. * * * ثَلجٌ كمثل مُهَاجرٍ يترك للمقيم أن يترحّل، بلا حدودٍ، في ذاكرته. * * * أحبّ دائماً أن أرى العالم وأن أقرأه - شارداً في محيطٍ من الغبار. اليوم، يُغريني بذلك غُبارُ الثّلج. - 2 - صباحاً - عَتبةٌ لا تملُّ من استضافة أقدامٍ تائهة. شجرةٌ تحكّ رأسها بمناقير الطيور، وبينها الغراب. وهذه الغيوم التي تنزل بطيئةً، دَرجةً درجةً على سُلّم الثّلج. * * * صباحاً - ما أجملَ عدوانَ ذاكرتي عليّ: تأخذ مِنّي الحِبْرَ وتعطيني النّسيان. * * * صباحاً - ها هي الشّمسُ تَجيءُ في قوادم الثلج. * * * صباحاً - هاجرَ طائرُ الوقت. * * * مساءً - زغَبٌ يَنبتُ بين فَخذيْ اللّيل. - 3 - وُلدتُ في مَهْدٍ لا أجدُ غيرَ الجُرْحِ اسماً يَليقُ به. - 4 - كَتَبتْ إليه: "لولا وَهْمي، كيف كنتَ ستعرفُ واقعكَ؟" * * * وكتَبتْ: "ثمّةَ ظلامٌ آخَرُ يَظلّ رفيقاً لِلسّفرِ داخلَ النّور. لولا ذلك، لكان السّفَرُ نفسُه نُكوصاً". - 5 - كتَبَ إليها: "جسدكِ نَدىً وسريركِ زهرةُ نَرجس هكذا، أصدّقُ فيكِ الغيم وأكذّبُ الشَمس" * * * وكتبَ: "عندما نتحاورُ أشعر أن شفتيّ لاصقتان بِشفتيكِ، وأنّ فمي يَنْغلقُ، ولا يعودُ موضِعاً يخرج منه الكلام. يتحوّل، بالأحرى، الى موضعٍ للشّغَفِ، لِلذّةِ وخَلْق اللذّة. هكذا أَجِدني أمامَكِ صامِتاً، لا أعرف ما أقول، متخيّلاً كيف أخلق تلك الملذّات. لا تتكلّمي". - 6 - لا يكفّ عن اللّعب، مكرّراً دائماً: اللّعب أول الفاجعة - 7 - توفّر لنا الحياةُ السّياسيّة العربيّة، بعبقريّةٍ نادرةٍ، مُناخاً نشعرُ فيه أنّ العاصفةَ آتيةٌ في طريقِها إلينا، وأنَّ الهاويةَ تَكاد أن تَنْفتح. - 8 - يمكن أَنّ يُصاغَ أحدُ وجوه الأزمة في الغرب، بسبب التطوّر التقنيّ، بالقول: إنّ الحياةَ في الغرب يُضحَّى بها من أجل العمل، بينما يجب أن يُضحَّى بكل شيءٍ من أجل الحياة. يمكن، بالمقابل، أن يُصاغَ أحد وجوه الأزمة في المجتمع العربي، بسبب "تطوّرات" من نوعٍ آخر، بالقول: الإنسان في المجتمع العربي يُضحّى به من أجل السّلطة، بينما يجب أن يُضحّى بكلِّ شيءٍ من أجل الإنسان. برلين، شباط 999