- 1 - عندما نتأمل في الأسس والمنظورات التي تقوم عليها الثقافة الغربية - الأميركية السائدة في المؤسسات التربوية، والاقتصادية والعسكرية، وفي الأوساط المرتبطة بهذه المؤسسات، نرى ما يُتيح لنا ان نقول: الثقافة، بحسب هذه المؤسسات، هي كذلك دمٌ مُراق. وليس على من يشكّ، الا ان يستعرض العلاقات العملية التي تقيمها هذه الثقافة مع خرائط العالم غير الغربيّ - الأميركيّ، وبخاصة خريطة العرب. - 2 - كلّ يومٍ، أتجوّل بين أشجار برلين، فأمشي ساعة، على الأقل. أدرس أشكال هذه الأشجار، وأتساءلُ عن أسمائها، دون أن ألقى جواباً، الا نادراً. فيما أمشي، يُخيّل إليّ أحياناً، بين لحظةٍ وأخرى، أن في كلّ شجرةٍ جمجمةً للزمن - فمها مفتوحٌ أبداً للريح والغبار، للمطر والثلج، وبين سنةٍ وأختها، يُعشّش فيها طائرٌ مهاجر. - 3 - فوقي غيمٌ كثيف، - آهِ، دائماً يرمي الغيم نَرْدَهُ، واثقاً من الحظّ. - "لا تَنْس، لا مكانَ لي غيرُ الفراغ والريح": وشوشني الغيم. - 4 - للمرة الأولى، أشاهد على الشجرة التي تقابل نافذتي، غراباً يتنهّدُ - وتخرجُ أنفاسُه كمثل غيمةٍ صغيرةٍ من الدخان. وقلتُ في نفسي: لا شكَّ في انّ صوتَ الغُرابِ كرويٌّ كمثل الأرض. - 5 - عندما أُصغي في النهار الى موسيقى شوبان، كما أفعلُ هذه اللحظة، يُخيّل اليّ كأنني أصغي، حولها وفيما وراءها، الى حفيف أوراقٍ غامضةٍ في غابة الليل. - 6 - قالت لي: "لم يعد الرجل، اليوم، ينظر الى المرأة بعينيه، بل بيديه وفَخذيه". - 7 - لاحظتُ ولا أزعم ان ملاحظتي لا تُخطىء ان الكلابَ هنا في برلين هي، على الأغلب، من جهة النساء. أهِيَ، إذن، ماكرةٌ الى هذا الحدّ؟ - 8 - تقول لي أيامي، هنا في برلين، وكانت تقول ذلك في أمكنةٍ أخرى، - تقول واصفةً نفسَها: "أعرفُ، لستُ جوهراً، ولا هويّةَ لي غيرُ هذا الفراغ الذي يتنقّلُ في أحضان الفضاء. وأعرفَ ان ثمّة مكاناً أخيراً يوحّد الجميع في أبجدية السّراب. غير ان مشكلتي، مع ذلك، هي أنني في تناقض دائمٍ مع نفسي". - 9 - جسَدٌ مقيمٌ في منفى: مَنّ منهما يَقطف ثمارَ الآخَر؟ - 10 - للرّيح عَقْلٌ لا يطلبُ الحكمةَ الا من الغبار. - 11 - أشعرُ أكثر فأكثر ان الموت يمكن ان يَجيء هو كذلك مُتقطّعاً، وأن الحياة بطيئة لا تكادُ ان تتحرّك. ولا نكادُ ان نُحسَّ بحركتها البطيئة الا اذا حدّقنا فيها طويلاً حيث تُقيمُ في منزلها الأفْضلِ والأبهى: جسد الإنسان. - 12 - غرابٌ يقفزُ بين أشجار الحديقة، كأنه يقفزُ في كتابٍ من الصور. - 13 - قلتُ لها مرّةً، ولم تصدّق: رأيتُ لبعض الأيام أجنحةً في أقدامِها، ورأيتُ لبعضها سلاسلَ في أعناقها، وفي أطرافها جميعاً. اليوم، تعيّد عيدَ ميلادها الأربعين. هل ستصدّق الآن؟ - 14 - يتراءى لي، أحياناً، وأنا أسير في شوارع برلين أعترفُ بغرابة هذا التخيّل، ان للسيارة مخالبَ مغروزةً في كتفيْ كلّ سائق. - 15 - ما هذه السماءُ التي ترفرف دانيةً فوقي؟ رأسها يُلامسُ قدميها، وهي قائمةٌ - غير انها منقَّشةٌ بلآلىء صغيرة تتدلّى منها، وتتحوّلُ الى عقودٍ في أعناق الشجر. - 16 - أسيرُ، متقدماً نحو جسَدي. أحياناً، يرافقني قمرٌ في هيئةِ مُثلَّث، وأحياناً، ترافقني شَمْسٌ كمثلِ ناقةٍ أفْناها السَّير. - 17 - لم تنجح الشمسُ، اليومَ، في رسم صورتها على نوافذ غرفتي. وكان فَشَلُ القمرِ، في حواره معها، ساطعاً. - 18 - لا يأخذ الإنسان بموته جسده وحده، يأخذ كذلك، اضافةً الى زمنهِ، المكانَ الذي عاشَ فيه . أحسب، أتاحَ لي أن أقول ذلك، تمثالٌ لهيجل في القسم الشرقي من برلين، قربَ جامعة هامبولت. تمثالٌ صغيرٌ. ومنعزلٌ. - 19 - حلمت البارحة أنني كنتُ على وشكِ ان أغرق في البحر. والموجُ، وحده، هو الذي حاول ان ينقذني. - 20 - سأذهب الى المقهى، تاركاً شمسَ برلين تنامُ في حضن الثلج. برلين، كانون الثاني يناير 1999