تلقيت من الصديق الكبير، سناً وقدراً وعلماً، يوسف الشيراوي رسالة علق فيها على بعض ما كتبت في الأشهر الأخيرة، واعتذر في نهايتها على أنها "هواجس رجل مسن"، فلا أقول سوى انني أتمنى لو أنني والقارئ نهجس مثله، ونحن في مثل سنه، أمد الله في عمره. هو قال ان كلمتي عن المغفور له الشيخ عيسى بن سلمان كانت مؤثرة اهتديت فيها الى أهم صفاته، وهي نظرته الانسانية الى الانسان. وزاد انني من المخلوقات المهددة بالانقراض في القرن القادم و"لا بأس ان يخلط المسلم العروبة بالإسلام، ولكن العظمة ان يجد المسيحي العربي حضارته وثقافته ومعنى حياته في الاسلام أو الحضارة الاسلامية". غير ان سبب الرسالة على ما أعتقد، هو قولي في هذه الزاوية اننا تأخرنا ثلاثة آلاف سنة، وقول الاستاذ الشيراوي اننا تأخرنا ألف سنة فقط. وعنده الأمثلة التالية: - قضى الفلكي القباني 37 سنة من حياته في الرقة يدرس السنة الشمسية، فوجد أنها 365 يوماً وخمس ساعات و48 دقيقة ونصف دقيقة، فلم يزد الخطأ في حسابه على دقيقتين فقط عن الرقم الذي توصل الىه العلم الحديث، مع انه عاش قبل 1200 سنة كاملة. - أرسل المأمون فريقاً علمياً الى بادية الشام/ العراق، قاس اعضاؤه ارتفاع نجمة القطب وانخفاضها في اتجاه جنوبي، ووجدوا ان الأرض كروية، محيطها يعادل 40 ألف كيلومتر، أي بفارق عن الرقم الحديث لا يتجاوز 800 كيلومتر، أو 2 في المئة. وبعد سبعة قرون اخطأ كولومبوس بفارق عشرة آلاف كيلومتر. - بين 1036 و1042 ميلادية كتب الفلكي أبو الريحان البيروني الى ابن سينا ان أرقام المجست لبطليموس لا تجعل الشمس تدور حول الأرض، وسأل هل من الممكن ان تدور الأرض حول الشمس. كان هذا قبل 540 عاماً من كوبرنكس، ورد ابن سينا: بإمكان الخالق ان يجعل الأرض تدور حول الشمس، أو الشمس تدور حول الأرض... من دون محاكم تفتيش، أو حرق الساحرات على الأعواد. وختم الاستاذ الشيراوي رسالته بالقول "دعا الإسلام الانسان الى التفكير العلم في نواميس الطبيعة، والى التسخير استعمال التكنولوجيا لتطبيق تلك القوانين، فلما توقف العلم والتفكير توقف التسخير، أي استنباط التكنولوجيا، وتأخرنا كما ذكرت...". رسائل المفكر البحريني البارز كلها من النوع السابق، وصاحبها يغرف من بحر علمه. واتوقف عند ابن سينا، فالشيخ الرئيس أقض مضجعي عندما كان النوم سهلاً عميقاً وأنا في الجامعة أدرس فكره، واعجب كيف أقصر عن فهمه، فاحتاج الى دليل على شكل استاذ، وهو شق الحجب اليه بمفرده قبل قرون. في الجدول الجامع لقوى النفس يتحدث ابن سينا عن نفس نباتية، من غاذية ومنميّة ومولدة، ونفس محركة، باعثة أو فاعلة، ونفس حيوانية مدركة، فإدراكها الظاهر بالحواس الظاهرة، أي الخمس من بصر وسمع وشم ولمس وذوق، وأدراكها الباطن بالحواس الباطنة من فانتازيا أو خيال أو مفكرة، ثم هناك النفس الانسانية العاملة والعالمة. كل كلمة مما سبق، وغيرها كثير، كانت تحتاج الى شرح طويل، لم أكد أخرج منه الى تصوف ابن سينا، لأضيع في فصول "السعادة" و"مقامات العارفين" و"أسرار الآيات". واعترف بأنني خرجت من درس الشيخ الرئيس كما دخلت، وأحب ما قرأت له الى نفسي هو قصيدته الرمزية في النفس: "هبطت اليك من المحل الأرفع..." وهي مشهورة فأتجاوزها. مع ذلك اسجل شيئاً آخر معروفاً هو ان العرب "اخترعوا" الصفر. وربما قلنا ان العرب وجدوا الصفر في الهند، واستعملوه، وانتقل منهم الى الغرب، فقام كل تقدم علمي لاحق على أساس الحساب العربي، لأن مثل هذا التقدم كان مستحيلاً بالأرقام اللاتينية. وكانت الفيثاغورية احدى أول مدارس الفلسفة اليونانية، وخلاصتها "ان العدد عنصر جميع الكائنات" ومع ذلك عجزت عن الوصول الى الصفر هذا. الصفر يعني لا شيء، أي واقع حالنا، ما يجعلني اعتقد ان العرب اليوم لا يتحدرون من عرب القرون الأربعة الأولى بعد الهجرة النبوية، اذاً لا يمكن ان يكون هؤلاء "خير أمة أخرجت للناس". لذلك ربما كان الأمر أنه جاء طرف في عصور الظلام، وخطف العرب في عتمة الليل، وأحل محلهم شعباً آخر يحمل الاسم نفسه. وهكذا يكون الأمر توافق اسماء، ولا علاقة لنا بعرب الرسالة، أو عرب مكتبة بغداد، أو ثقافة الاندلس. شخصياً، أجد هذا التفسير سهلاً ومباشراً، وأكثر منطقية من بحث مطول في اسباب تخلف عرب آخر زمان. غير انني اختتم بشيء آخر، ففي القضية بين قطر والبحرين المعروضة على محكمة العدل الدولية في لاهاي، تبين وجود رسالة مزورة باسم يوسف الشيراوي، فهي تحمل تاريخاً عندما كان في الحادية عشرة من عمره. ولعل أخانا يوسف يحمد حظه الحسن انه ولد بحرينياً، فلو كان ولد عراقياً لأعدمه صدام حسين، ثم حاكمه، ورد الاعتبار له في العالم الآخر بعد ثبوت براءته.