يمكن اعتبار البروفسور رشدي راشد (مواليد القاهرة 1936) الذي يدير «مركز تاريخ العلوم والفلسفة العربية وعلوم العصر الوسيط» التابع ل «المركز الوطني للبحث العلمي» في فرنسا، من أبرز القامات العلميّة المُعاصرة في مسألة علوم العرب وموقعها في مسار الحضارة الإنسانية، بل لعله المرجعية العلميّة الأبرز عالمياً فيها. وينظر راشد إلى تراث العرب علميّاً بوصفه جزءاً من تاريخ العلوم، كحال إنجازات غاليليو ونيوتن. ويُحذّر من أن النظر إلى ذلك التراث باعتباره واقعاً في العلوم الحاضرة إنما هو سير في طريق مسدود، مشيراً إلى أن السؤال المشروع منطقياً هو عن مساهمة التراث العلمي العربي في العلوم وتاريخها. وبحسب كلماته، «علينا أن نعرف أن فهم الحداثة العلميّة غير مُمكن، إذا ابتدأنا من القرن السابع عشر، على ما يُقال عادة، إذ لا بد من معرفة التراث العلمي العربي، خصوصاً في العلوم الدقيقة كالرياضيات والفلك والجغرافيا. وفي هذا المعنى، تتضح الصلة بين ما يحدث اليوم في العلم، وتراث العرب علميّاً. ليس من المستطاع فهم تاريخ الهندسة الجبرية من دون الرجوع إلى أعمال عمر الخيام أو شرف الدين الطوسي. ويمتدّ جذرٌ من هذين إلى أعمال الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت الذي أسّس عقلانية الحداثة الأوروبية على الرياضيات ومنطقها». على خطى أوروبا يوجّه راشد نقداً قويّاً إلى كثيرٍين من مؤرّخي العلوم في الغرب. ولا يرى صحّة في ما يذهبون إليه من القول إن الحضارة العربية- الإسلامية لم تشهد ظاهرة تحوّل العلوم إلى مؤسسة راسخة. ويقول راشد: «لو بحثنا عن المؤسسة العلميّة العربية بمنهجية مماثلة لبحثنا عن تاريخ «الكليّة الملكيّة البريطانية» أو «الأكاديمية الفرنسية»، لكُنّا تلمسنا وجودها. إذ اتّخذت المؤسّسة العلميّة العربيّة أشكالاً متنوّعة، في البحث والتعليم. ومثلاً، احتوى قصر شرف الدولة بن عضد الدولة الدويهي مرصداً للفلك، عمل فيه علماء من وزن الفلكي أبي سهل القوهي. وعُقِدَت فيه جلسات حضرها الحكام نوقِشت فيها مشكلات فقهية ودينية، إضافة إلى مسائل في العلوم والرياضيات. وذائع أمر «بيوت الحكمة» التي أُنشئت في القاهرة وبغداد، وأدّت دورها في تشجيع البحث العلمي والإنفاق عليه. وفي المدة نفسها، أُسّست بيوت مماثلة، لكنها أقل شهرة بكثير، أنفق عليها أثرياء، واعتنت بالعلماء والأدباء. وشاعت مدارس للدين، مثل «النظامية» و»المستنصرية» في بغداد، وهي دَرّست المذاهب الفقهية إلى جانب الرياضيات والفلك. وينطبق الوصف نفسه على الأزهر في مصر». ويلفت راشد النظر إلى نماذج أخرى من المؤسسات المُسانِدَة للعلوم، مثل المسجد الذي يحتاج إلى ميقاتي لتحديد موعد الصلوات وبداية شهر رمضان وحلول موسم الحج وغيرها، وهي من أعمال الفلك. ويشير إلى أن بعض من عمل ميقاتياً في المساجد، صار عالِماً كالفلكي ابن الشاطر، وكان ميقاتي الجامع الأموي. ويبيّن أن مراصد الفلك مثّلت نموذجاً آخر من المؤسسة العلميّة، إذ احتضن مرصد «مراغة» الفلكي نصير الدين الطوسي، كما عمِل عالِم الرياضيات الكاشاني في مرصدٍ (اشتُهِرَ باسمه لاحقاً) ضم أربعين مشتغلاً في الرياضيات. ويشدّد على أن المستشفيات كانت نموذجاً آخر من المؤسسة، فقد ترأّس الرازي أحدها، وهو من أكبر أطباء العرب. وبالمعنى الأكاديمي على الطريقة الأوروبية، أي كما كانته المؤسسة العلميّة في القرن السابع عشر، ظهرت أكاديميات في بغداد عمل فيها أحد كبار المترجمين، الحجاج بن مطر، والخوارزمي مؤسس علم الجبر، ويحيى بن منصور الفلكي وغيرهم، بحسب راشد أيضاً. ويضيف: «يرجع السبب في تأخر البحث عن المؤسسة العلميّة إلى عدم الجدية الكافية في بحوث تاريخ العلوم العربية- الإسلامية في الدول العربية والإسلامية نفسها». مدينة العقل العربي في وجهة نظر ربما لا تكون شائعة، يرفض راشد القول إن العلوم لم تنزرع في نسيج العقل العربي، بل يرى فيه جهلاً عميقاً بهذه الحضارة وتاريخ العلوم أيضاً. «في تاريخ العرب أن العلم إنوجد في المسجد كميقات وفلك، وفي المستشفى كطب، وفي المدارس كرياضيات، وفي القصور والحلقات كرياضيات وفلك وفلسفة. هذا يعني أن العلم كان جزءاً أساسيّاً من المدينة الإسلامية التي يصعب تصوّرها من دون هذا البعد العلمي داخلها، وليس كاستيراد من الخارج، كما يحلو للبعض القول. وعلى هذا النحو، احتوت المدينة الإسلامية علوماً تطبيقية متعدّدة مثل الجغرافيا الرياضية، أي تحديد الأبعاد والمسافات في شكل رياضي، وتحديد القِبلة في بلاد مترامية. وعلم الميقات هو تحديد أوقات الصلاة وبداية شهر الصوم ومواعيد المناسك وغيرها. كان العلم جزءاً من الممارسة الدينية أيضاً. إذ توجّب على الفقهاء حلّ مشكلات الميراث بحسب الدين الإسلامي، ونشأ علم الفرائض المؤسّس على الرياضيات. ولعل القول بعدم انزراع العلم في نسيج العقل العربي، تقصد به الإشارة إلى عدم حصول ثورة علميّة في العالم العربي، وحصولها في أوروبا». ويُشدّد على أن قِيَم العلم هي وسائل تحقّق العقل في أشكال مختلفة، مشيراً إلى أن علماء الحضارة العربية- الإسلامية لم يقبلوا بغير المقولات والبراهين العلميّة، ولم يكونوا أيديولوجيين فعلياً. ويلاحظ أن كتب التراث العلمي العربي تدافع عن أهمية البرهان العقلي. ولا يتردّد في المُطالبة بضرورة تدريس التاريخ العلمي العربي باعتباره مدخلاً أساسياً في إرساء القيم العلميّة المتضمّنة فيه، فلا تظهر هذه القِيم كأنها مرتبطة بعلوم الحضارة الغربية وحدها، و «في هذا المعنى، يصبح تدريس تاريخ العلوم والفلسفة العربية هو تَعَرّفٌ إلى القِيَم العقليّة، باعتبارها قيماً أساسية في الحضارة العربية - الإسلامية، فكأنه نوع من التعرّف إلى الذات». وينتقد راشد بعض التصوّرات حول مسألة الثورة العلميّة، لافتاً إلى أن ثورة الرياضيات إنما حدثت في أحد فروعها، فيما بقيت معظم فروعها مرتبطة بالرياضيات التي طوّرها ديكارت، وهي تتصل بمنجزات العرب الذين أبدعوا في مجال الأعداد، وضمنها ابتكارهم للصفر الذي أحدث ثورة علميّة في الرياضيات. ويلفت راشد إلى أن الفلكيين العرب والمسلمين تلمّسوا الخلل في نظام بطليموس. ويضيف: «ليس الخلل في مسألة مركزية الأرض بل في نظام الرياضيات الذي استند إليه بطليموس، خصوصاً معادلاته في تفسير حركة القمر والمريخ. وتمكن إبن الهيثم من صياغة نماذج في الرياضيات لتفسير حركات الفلك، أكثر تقدّماً مما صنعه بطليموس. ومن المعروف أن نموذج إبن الشاطر، ومن قبله نصير الدين الطوسي، هو ما استعاره كوبرنيكوس الذي وضع الشمس محل الأرض. يجدر التنبّه إلى أن ثورة العِلم لم تكن عند كوبرنيكوس، بل في تفكير كِبلر بإنشاء نوع من النظرية عن حركة الأفلاك. لندقق في سؤال من نوع: هل ثمة من سَبق كِبلر في تصور صيغ في الرياضيات عن حركة الأفلاك؟ ما أعرفه هو أن علماء الحضارة العربية - الإسلامية سبقوه في هذا المجال. واستطراداً، حصلت ثورة العِلم عند التفكير في نموذج مُغاير ومتناسق في الرياضيات عما ذهب إليه بطليموس، وهو أمر لم ينجزه لا إبن الشاطر ولا كوبرنيكوس. ما يقلقني في هذا النوع من التصوّر للأشياء هو أن بعض الغرب يريد أن يبتدئ العرب ببطليموس ويصلوا إلى... أينشتاين، وإلا لا يكونوا أنجزوا شيئاً! وأعتقد بأن هذا نوع من التفكير الأيديولوجي. في المقابل، يتحدّث البعض في الشرق، كأنه يقول إن العرب ابتدعوا كل شيء، وكأن العلم لا يتقدّم ولا تحدث فيه قفزات وثورات، وهذا تفكير ماضوي مرفوض أيضاً. لنعُد إلى ما أنجزه العرب في نظرية الأعداد، وهو موضوع له تاريخ طويل ويتّصل بعلم الجبر. ومن إنجازات الحضارة العربية أنها أول من حقّق الجداول الخوارزمية للأعداد مع ما يربط بينها، وهو تطوّر أساسي في مناهج التحليل العددي». تراث علمي بعين نقديّة يمتلك المفكر المصري رشدي راشد نقداً معمّقاً للتراث العلمي والفكري العربي- الإسلامي، مؤسّساً على المعنى الذي قصده الفيلسوف عمانوئيل كانط في النقد، بمعنى أن يكون النقد إعادة بناء الأشياء على أسُس أكثر متانة مما كانت عليه. فبحسب راشد، «يمكنني أن أصف نقدي التراث بأنه إعادة تأسيس. لا أعطي تراثنا العلمي أكثر من حقّه ولا أخذ منه ما هو حق له. يشكّل التراث العربي جزءاً من تاريخ العقل في الممارسة العلمية التي سعت دوماً للوصول إلى مزيد من التقدّم. واغترف الغرب من العقل الإنساني، كما فعل اليونان والعرب قبلهم وكذلك البابليون والمصريون. يتمثّل النقد في أن نضع التراث على الأسس التي كان عليها، وهو نوع من إعادة النظر في الأشياء لمعرفة ما كان دور العلم في التصوّر العقلي العام. هل ساعد العِلم مثلاً في بناء فلسفة علمية عربيّة؟ هذا موضوع لم يُبحث بعد، وإن كان يستحق البحث. ما كان أثر العلم في بعض التصورات الدينية أو بعض الممارسات المتّصلة بالعقيدة؟ يعتقد البعض أن الدين جزء كامل ثابت ومانع، وأنه لا يتغير. وأعتقد أن هذا التصور مغلوط أيضاً، لأن الدين ممارسة لبشر يعيشون في مجتمع. وضمن هذا التصوّر، أُفكّر في أثر العِلم على هذه الممارسة». ويعرب راشد دوماً عن قناعته بأن الأصوليّة المُتطرّفة لا تعرف العلم ولا كتب الإسلام نفسها: «لا أعتقد بأنها تعرف أعمال إبن تيمية الذي كان على مستوى متقدّم من الذكاء والمعرفة والفلسفة. ويحضرني أنني عندما تُشكِل عليّ إحدى مسائل إبن سينا ولا أستطيع فهمها في شكل واضح، أرجع إلى نقد إبن تيمية لابن سينا. وأعتقد أن الأصولية المتطرّفة هي انفعال اجتماعي، وليست من أعمال العقل». وكذلك يشدّد راشد على أن الاهتمام بالمنجزات العلمية الحديثة هو أيضاً أمر أساسي عند النظر إلى التراث العلمي العربي. وفي المقابل، يؤدي الاهتمام بالتراث العلمي إلى إدخال قيم عقلية إلى المجتمع الذي ينقصه أحياناً حضور هذه القيم في الحياة اليومية. وفي السياق عينه، يؤكّد راشد أن الاهتمام بالبحث في التراث يمثّل محاولة لرؤية الذات العربية كما كانت عليه، بما في ذلك البعد العلمي فيها، ما يؤدي إلى إعادة الثقة بالتقدّم العلمي إلى الأبعد. ويرى أن هذا الاهتمام يخدم تكوين عقلية علمية تعاني المجتمعات العربية من غيابها. وبحسرة يضيف: «يكفي التفرّج على أقنية التلفزة العربية لنلاحظ مدى الالتباس بين العلم والتكنولوجيا، ومعاملة العلم كأنه مجرّد تكنولوجيا». وكذلك يخلص للقول إن التراث يبيّن موقع الأمة العربية في البناء الحضاري والعلمي الإنساني الشامل، «ما يبعد العقول عن التصوّر المأزوم للذات، كما يجعل العرب جزءاً من مجهود إنساني ضخم ومستمر، يشارك فيه الجميع، كل بحسب قدرته وظروفه». ويشدّد على ما يلي: «ليس هناك تعارض بين الجينوم وإبن سينا. هناك تعارض قوي بين عدم معرفة الذات والبعد العلمي في التراث من جهة، والجينوم من جهة أخرى». سيرة لقامة علميّة مهاجرة وُلِد الدكتور رشدي راشد في القاهرة عام 1936. - يشغل منصب مدير قسم الدكتوراه في جامعة باريس السابعة. - يدير «مركز تاريخ العلوم والفلسفة العربية وعلوم العصر الوسيط» التابع ل «المركز الوطني للبحث العلمي» في فرنسا. - يعمل أستاذاً لتاريخ العلوم في العصر الوسيط - جامعة طوكيو. - يترأّس «الجمعية العالمية لتاريخ العلوم والفلسفات العربية والإسلاميّة». - حاز ميدالية «ألكسندر كويريه» من «الأكاديمية الدولية لتاريخ العلوم». - نال الجائزة العالمية لأفضل بحث في الإسلاميات. - نائب رئيس «الأكاديمية العالمية لتاريخ العلوم». - كرّمته الحكومة البريطانية على مؤلفاته في تاريخ الرياضيات، وكرّمته الحكومة الإيرانية على مؤلَّفِه «موسوعة تاريخ العلوم العربية» الذي نُشِرَ في إنكلترا وفرنسا تحت عنوان «تاريخ العلوم العربية». - تدور بحوثه على العلاقة بين التاريخ وفلسفة الجبر، والنظرية الكلاسيكية للأعداد، والنظرية الطبيعية، والمشكلات التاريخية والفلسفية في تطبيق الرياضيات في العلوم الاجتماعية. - من مؤلّفاته «رياضيات الخوارزمي - تأسيس علم الجبر»، و «في تاريخ العلوم: دراسات فلسفية»، و «تاريخ الرياضيات العربية بين الجبر والحساب»، و «علم المناظر وعلم انعكاس الضوء - أبو يوسف يعقوب بن إسحق الكندي»، و «الرياضيات التحليلية بين القرن الثالث والخامس للهجرة»، و «دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها» وغيرها. وأشرف على وضع «موسوعة تاريخ العلوم العربية» التي تعتبر أوسع مرجع مُعاصِر عن العلوم والتكنولوجيا في الحضارة العربية - الإسلاميّة.