بغض النظر عما بقي أو لم يبق من أسلحة الدمار الشامل العراقية، فإن العراق "المتحرر" الآمن من "جواسيس اونسكوم" والذي صارت أزمته عائمة بعد رفضه التعاون مع اللجان الثلاث التي شكلها مجلس الأمن لتقويم مدى تنفيذه لقرارات المجلس بات يتعرض منذ أسابيع لغارات جوية أميركية - بريطانية شبه يومية تتخذ أكثر وأكثر طابع حرب استنزاف غير معلنة. في حرب الاستنزاف هذه يقف العراق رافضاً لمنطقتي حظر الطيران الشمالية والجنوبية اللتين حددتهما واشنطن ولندن خارج اطار قرارات مجلس الأمن، معتبراً تحليق الطائرات الحربية الأميركية والبريطانية في اجوائه انتهاكاً لسيادته واعتداء على وحدة أراضيه. اما واشنطن ولندن فتعتبران اي تحرك من جانب قوات الدفاع الجوي العراقية ضد طائراتهما "استفزازاً"، وهو تعبير أوحى لرسامي كاريكاتير في صحف غربية عديدة برسوم توضح مدى ما ينطوي عليه تعبير "الاستفزاز" هذا من سخرية. وبرغم عدم التكافؤ الواضح بين القدرات العراقية والقدرات الأميركية في حرب الاستنزاف هذه التي تقوم بريطانيا فيها بدور الشريك الصغير الذي يتعرض لانتقادات من زملائه في الاتحاد الأوروبي، فإن العراق الذي تتآكل موارد دفاعه الجوي أعلن، على لسان وزير نفطه عامر رشيد، انه يأمل "بتلقين الأميركيين والبريطانيين درساً في القريب العاجل". ويبدو أن القيادة العراقية تجازف بتعريض مواقع دفاعها الجوي ومواقع عسكرية أخرى، بل ومرافق اقتصادية حيوية كأنبوب نقل النفط الى تركيا، ضمن محاولتها لفت النظر الى الاعتداءات الأميركية - البريطانية المتكررة في اطار ليس له أساس في قرارات الشرعية الدولية. إزاء هذا، وبعد ضرب محطة لتقوية الضخ في خط الأنابيب الممتد من كركوك الى ميناء جيهان التركي على البحر المتوسط، شنت الطائرات الأميركية أول من أمس 12 غارة تعد الأشد منذ عملية "ثعلب الصحراء" في كانون الأول ديسمبر الماضي، واسقطت فيها 30 قنبلة وصاروخاً موجهة على مواقع للدفاع الجوي ومراكز قيادة وأبراج اتصالات ومواقع مدفعية مضادة للطائرات. من الملفت ان وزير الدفاع الأميركي وليام كوهين - الذي يسعى بلا كلل الى تسويق منظومات أسلحة أميركية في المنطقة الخليجية - أعطى اشارة واضحة الى توسيع نطاق حرب الاستفزاز في سياق تعقيبه على الغارات ال 12. إذ قال ان الطيارين الأميركيين سمح لهم بتوسيع نطاق تحركهم ليضربوا سلسلة من أهداف الدفاع الجوي في مناطق حظر الطيران في الشمال والجنوب رداً على "تهديدات" القوات العراقية، مضيفاً ان الطيارين أصبح لديهم بعض المرونة وان هذه المرونة "ستستمر". وتندرج حرب الاستنزاف هذه طبعاً في اطار الجهود الأميركية لاطاحة نظام الحكم العراقي. ذلك أنها تعزل شمال البلاد وجنوبها عن وسطها وسط تكهنات للمنسق الأميركي مع المعارضة العراقية فرانك ريتشياردوني بأن تغيير النظام العراقي سيتم ب "انقلاب عسكري" قال انه سيكون "مفاجئاً". ويواصل ريتشياردوني، كمعظم المسؤولين الأميركيين المنهمكين في ملف العراق، التشديد على أن تغيير النظام لن يؤدي الى تمزيق العراق. هل كان العراق سيقبل بلجان مجلس الأمن الثلاث لو كفت أميركا عن شن غاراتها واعلنت الغاء منطقتي حظر الطيران؟ لا رواج اطلاقاً لمثل هذا العرض في واشنطن، والقصف، كما قال وزير الخارجية الاسباني أول من أمس "لا يؤدي الى نتائج جيدة - الطريق الآخر أفضل وذلك يعني ضم العراق الى المجموعة الدولية". ويضيع صوت اسبانيا وسط دوي الصواريخ والقنابل.