قد يكتشف القارىء ذات يوم أن القراءة أصبحت غير ممكنة، أو ما عادت، في الأقلّ، الملاذ الذي اعتادت أن تكونه فيما مضى، دون أن يتبدّل شيءٌ من جوهرها أو صفاتها. فالقارىء الذي يمثل ذات يوم أمام اكتشافه هذا يميل، بالحيلة، الى معاودة القراءة، أي أنَّه لا ينتقي من احتمالات القراءة التي لا تُحصى، جديداً، بل يختار، عمداً، ما كان قرأه في السابق، وربَّما مراراً، ويشعر فجأةً بالرغبة في أن يستعيد، بكثير من الترقُّب والحنين، استسلامه لما كان في السابق شغفاً ولم يبق منه اليوم سوى ذكرى أو تذكار شغف. في معظم الأحيان تنتهي مغامرة الاستعادة هذه بالخيبة. فلا القارىء، الذي هو أنا في هذه الحال، هو إيّاه، ولا الكتاب، أي كتاب، هو إيّاه" ما يجعل القراءة مختلفة، ليست، بالضرورة، أسوأ أو أفضل" لكنّها مختلفة. وإذا كان مصدر الاختلاف ليس بديهيّاً مهما تنوّعت التأويلات، فإن حقيقته الماثلة تربك القارىء وتحثه على الخوض في مغامرة أخرى، ليست في المبدأ من مهام القارىء، لكنه يضطلع بها في ازدواج مستهجن لوظيفته: ذلك أن القراءة تكف لفترةٍ عن كونها قراءة وتتحول، على زعم جان كلود ميلنر، الى "استقصاء" وهو، تعريفاً، ضمان استرجاع الشيء أو الأمر الغائب بسلوك أو معاودة سلوك نطاق خاصيّاته المتوافرة. فإذا كانت الخاصيات جميعها متطابقة وهذا أرقى التزوير لم يكن الشيء أو الأمر إيّاه. وإذا كانت غير متطابقة وهذا أرقى الوضع كان الشيء أو الأمر إيّاه. كل استقصاء يفترض، في المنطلق، شبهة تزوير، ويفضي، في ختامه، الى استنتاج مفاده أن تمام التطابق يعني أن الكاتب مزوِّر بوضعه الكتاب وأن القارىء قبل أن يصبح قيّافاً مزوِّر، وأن صلة القراءة هي صلة عدم تطابق، لأنها نشاط تأويل، فهي، إذاً، صلة تزوير. الكاتب مزوِّر. القارىء مزوِّر. القراءة صلة تزوير. وإذا كانت هذه الفرضيات تبقى مضمرة وطيّ الكتمان في الغالب الأغلب من نشاط الكاتب والقارىء، فإن بعضه، وهو بعض قليل، لا يجد حَرَجاً من الجَهْر بحقيقة اللعبة، منذ البداية، وكشف "حيلتها" تمهيداً لمواطأة القارىء في لعبة مشابهة. ولكي لا نغرِّب كثيراً في التمثيل على هذه المواطأة لن نتخذ مثال حمّاد الرواية ومصنف "أخباره" الأصبهاني، لأن في ذلك "تحصيل حاصل" تفترضه صلة الرواية بالاستقصاء، والعكس بالعكس. فحمّاد الراوية "كذّاب"، وهذه كنيته، ويقدم الى القارىء، في مطلع "أخباره"، بوصفه مزوِّراً. ولكن ماذا عن الجاحظ؟ أيعقل أن يكون الجاحظ، أبو عثمان عمروُ بن بحر، مزوِّراً؟ وإذا كان كذلك، ما الحجّة لدى القارىء على بيان هذه الواقعة؟ الحجّة هي الأبسط: اعترافه بأنه مزوِّر في مفتتح مؤلّفه: "رسالة في العداوة والحسد" الذي لم يرق، الى الآن، شكّ في نسبته اليه ويستعاد هذا الاعتراف، في نصّه الحرفي تقريباً، في كتابه: "المحاسن والأضداد" الذي يميل المحققون بشدّة الى انكار نسبته اليه والقول بأنّه من وضع "مزوّر". يقول الجاحظ في معرض الزعم بأنه إنما يفعل ذلك اجتناباً لمطاعن "أهل العلم بالحسد المركب فيهم" ويضيف: "... وربما ألفت الكتاب... فأترجمه بإسم غيري، وأحيله على من تقدمني عصرُه مثل ابن المقفع والخليل، وسلم صاحب بيت الحكمة، ويحيى بن خالد، والعتّابي، ومن أشبه هؤلاء من مؤلفي الكتب...". ولكن هل يؤخذ باعتراف الجاحظ قرينة على أنه مزوّر؟ فقد يقال ان الاعتراف ليس قرينة. فاعتراف المرء بأنه مزوِّر قرينة على أنه قد يكون مزوِّراً وقد لا يكون. لأن كلام المزوِّر ليس ثقة فتمامُه هو تمام التطابق، وهذا أرقى التزوير. وتصبح القرينة أوضح وأدلّ إذا استعيدت عناصرها في مفتتح كتابٍ "أحيل" على الجاحظ لنفي "شبهة" التزوير والتي يستخدمها يتوسّلها مزوِّر هو واضع ؟ "المحاسن والأضداد" وأوّل فصوله، للمفارقة، فصل "محاسن الكتابة والكتب". ماذا لو كان واضع "المحاسن والأضداد" هو الجاحظ؟ وماذا لو كان واضع "في العداوة والحسد" هو آخر أحاله على "من تقدّمه عصره" لجاحظ؟ هل تكفي مقارنة "الأسلوب"؟. الواضح أن هذه المقارنة إذا كانت ممكنة لن تفضي الى نفي أو إثبات، لأنها تقوم على "المطابقة" التي يقوم بها قارىء ويقررها، على نحوٍ ما" ولأن الاختلاف والمطابقة ضروريان لإنجاز صنعة التزوير: ماذا سميت المطابقة تزويراً، كان الاختلاف "استبدالاً" أو "دسّاً"" وهذان الأخيران شكلان من أشكال التزوير. حيال اعتراف الجاحظ بالتزوير، واعتراف مزور كتبه بالتزوير نسخاً عن الجاحظ، وبطلان أي وسيلة للتحقق، كيف يقرأ القارىء؟ لا يجد القارىء أمامه إلا أن يجعل القراءة نفسها شكلاً من أشكال الرواية دونما التفات الى "صحتها" أو "كذبها". ويجد أنه على غرار الكاتب قد يسهم في صنعِ النصّ كاتباً، كما قد يُسهم فيه مكتوباً" وقد يحضر فيه متكلماً أو غائباً على أن يبقى مخاطباً خارج الرواية" وقد يكون القارىء قيافاً وأثراً سبيلاً وغاية، منطلقاً وضالّة. وفي تعدد صفاته ووظائفه لا يستقر على حال، وإذا استقر كانت حاله تحوّلاً، إثباتاً ونفياً، قراءة وتأليفاً. قد لا يكون الجاحظ قرأ هونوريو بوستوس دوميك لسبب بسيط، وهو أن هذا الأخير لم يولد قبل العام 1942 من عصرنا هذا. فهل قرأ هونوريو بوستوس دوميك الجاحظ؟ لا شيء لدينا يؤكّد الأمر أو ينفيه، خصوصاً ان قراءات دوميك "الشرقية" ربما اقتصرت على "ألف ليلة وليلة" في ترجمة بورتون. غير أن الثابت عندنا أن قارئاً وربما أكثر قرأ الجاحظ ودوميك ما جعل مصيريهما، بفعل المطابقة التي هي أرقى التزوير، واحداً. وإذا كان هذا القارىء يعرف شيئاً من سيرة الجاحظ، هل يعرف شيئاً من سيرة دوميك؟ وإذا ثبت لديه أنه يعرف تاريخ مولده 1942 وتاريخ وفاته المحتملة 1962، أيمكنه التثبت من جدوى السيرةِ في تأكيد أو نفي وجوده كشخص لا كمؤلف، لأن هذا ما يثبته وجود كتابه وصفته كمزوِّر؟ تشير الوقائع، وما لدينا من وقائع يجتمع في مصدر واحد، أن كاتبين قد أتيا على ذكره في بعض أعمالهما، هما أدولفو بيوي كازاريس وخورخي لويس بورخيس، وقد أسهب هذا الأخير في كتابه "محاولة تدوين سيرة ذاتية" في ذكر تفاصيل تتصل بسيرة دوميك وسيرته. يقول بورخيس أنه التقى بيوي كازاريس عام 1930 ولم يُثمر لقاؤهما اشتراكاً في الكتابة إلا مطلع العام 1941، عندما عملا على تأليف بعض "الحكايات" البوليسية بأساليب تحاكي أساتذة النوع كإدغار ألن بو وتشسترتن وسواهما، ثم سرعان ما اتضح لهما أن عملهما المشترك ما عاد يتصل بأفكارهما وأسلوبهما بل بأفكار وأسلوب كاتب ثالث أطلقوا عليه اسم هونوريو بوستوس دوميك الذي أصدر كتابهم: "ست معضلات لإيزيدرو بارودي" عام 1942، وتابع الإنتاج متقطعاً حتى العام 1962 عندما فُقِد أي أثر له. بورخيس، كازاريس، دوميك" مَنْ منهم وُجِدَ حقاً بين 1942 و1962؟ أم أنَّ الكاتب الفعلي لعمل دوميك الأوَّل لم يكن سوى جرفازو مونتينيغرو الذي كتب مقدمة الكتاب وذيلها بتوقيعه، ليكتشف القارىء فيما بعد أنه ليس، سوى شخصية من شخصيات الكتاب، لا بل هو "أبله" هذه الشخصيات. ولكن ماذا لو كان المؤلف هو خامس يُدعى أيزيدرو بارودي، والذي لا يخلو اسمه بالفرنسية، وبالإيطالية من إشارة واضحة الى وجه من أوجه الأسلوب: المحاكاة الساخرة؟ لا يُعقل أن يكون بورخيس وكازاريس سوى قارئين اكتشفا، بمحض المصادفة، عمل دوميك الرائع الذي اتضح، فيما بعد، أنَّ كتابه قد أحيل عليه إحالةً، وأن المؤلف الحقيقي ربما كان مونتينيغرو الذي هو إحدى شخصيات الكتاب، ولا أحد يعرف عنه شيئاً كباقي الشخصيات، وبالتالي، من المحتمل أن أيّاً منها قد يكون، هو، مؤلف الكتاب. دوميك إذاً قارىء لأنه انتحل تأليف الكتاب بعد قراءته بالطبع. ومونتينيغرو قارىء أيضاً لأنّه واضع "المقدمة" أو التمهيد وصفته هذه تفرض عليه أن يكون قرأ الكتاب من قبل ليقدِّمه لأي قارىء آخر محتمل. وبارودي لا يمكنه إلاّ أن يكون قارئاً أيضاً، فهو الى اضطراره الى "استقراء" معطيات كلّ "جريمة" كما تروى له لأنه سجين، يجد نفسه مجبراً على انتحال صفه "الراوية" لأن السَّرد عن لسانه يجعله كاتباً وقارئاً في وقت معاً. غير أن الجميع، على اختلافهم، يشتركون في واحدةٍ من صنعتين: التزوير أو الدس الاستبدال، بحسب "تحريات" جان كلود ميلنر لحيثيات حكاية "الرسالة المسروقة". الكتابة تزوير، لأنَّ الكاتب شخصية روائية. القراءة تزوير، لأنَّ القرّاءَ، قاطبةً، شخصيات روائية، أو من بينهم، على الأقل، قارىء الجاحظ وقارىء دوميك. هل يستطيع القارىء أن يصنع كاتباً؟ ليس لدينا ما يثبت أو ينفي ذلك إلاّ في بعض الحالات التي استبعدنا منها مثال حماد الراوية، واستبقينا، مثالاً لا حصراً، الجاحظ وبورخيس اللذين يشتركان أيضاً بعلّةٍ مزمنة في آلة البصر. فالشائع أن الجاحظ ذيّل كتابه "الحيوان" بثبت بعناوين مؤلفاته. والشائع أيضاً صحّة نسبة الأخبار أو جزءٍ لا يستهان به منها التي ضمّنها كتابيه "الحيوان" و"البخلاء"، إذ قيل، في أكثر من مثل، أن الجاحظ كان يطلق العنان لمخيلته كمؤلِّف في صنع الأخبار ونسبتها الى "رواة" مختلفين أو الى سواهم من الثقاة الأموات. والشائع أيضاً أن بورخيس غير الآبه بأي ثبتٍ لمؤلفاته، يُصرّ، في المقابل، على وضعِ ثبتٍ بالغ الدقة لقراءاته. وبورخيس، بحسب امبرتو ايكو، "قارىء قرأ كل شيء، لا بل أكثر من كل شيء، لأنه أتى على ذكر قراءات لكتب ومصنّفات ومعاجم غير موجودة أصلاً، غير أن "نقصان" وجودها لا يقلِّل من "أهمّيتها البالغة"، فيذهب في كتابه: "Fictions" الى سَرْدِ معاناة "بيار مينار مؤلف دون كيشوت" الذي اعتاد أن يسوِّد آلافاً مؤلفة من الأوراق البيض قبل أن يعمد الى "اتلافها". غير أن مينار هذا لا يقلّ "وجوداً" عن بورخيس نفسه أو كازاريس أو دوميك أو بارودي أو الجاحظ، أو عنترة أو مجنون ليلى وسواهم... من ترجم أعمال ملفيل وفرجينيا وولف وفولكنر، للمرّة الأولى، الى الإسبانية؟ يقول بورخيس في سيرته؟ أنها نسبت اليه خطأً وأن مترجمها الحقيقي هو والدته: ليونور أثيفيدو دو بورخيس. ومن ترجم "الأمير السعيد" لأوسكار وايلد؟ يقول بورخيس أن ترجمتها نسبت خطأً الى والده خورخي غييرمو بورخيس، والصواب أنّه هو، خورخي لويس، مُترجمها. ويقول مزوِّر "المحاسن والأضداد"، عن لسان الجاحظ عن الكتاب أنه "ينطق عن الموتى ويترجم عن الأحياء، ومن لك بمؤنس لا ينام إلاّ بنومك، ولا ينطق إلاّ بما تهوى..." وأنه "أكتم للسرِّ من صاحب السرّ"... وأنّه أنتَ. فَمَنْ نصدِّق.