لم يكن المطرب، شاعر الأغنية، والملحن إيلي شويري بحاجة لكي يقدم أغنية بعنوان "زمن الطرشان" فيفهم الناس أنه يعلن حزنه وغضبه ورفضه لما يجري فنياً، وغنائياً، في لبنان والعالم العربي. وحين يروي انه، ذات مرة، طلبت منه احدى المطربات ان يضع لها مزماراً في اغنية جديدة يعدّها لها، لا يخفي انه بعدما فرغ من تسجيل الاغنية في الاستديو، بصوت المطربة، اهداها مزماراً...! وفي كلام شويري الخاص بينه وبين اصدقائه، والعام بينه وبين الاعلام، معان يتقصدها بعناية، ودائماً بسخرية مرّة درامية حيناً وكاريكاتورية احياناً، ومعروف عنه انه "نرفوز"، جوابه تحت ابطه بمثل ما ألحانه وصوته تحت شغاف قلبه. ومع ان إيلي شويري، كان قبل سنوات، ينكر او يتجاهل الاثر الرحباني في نصوصه وألحانه وتجربته الفنية، الا انه، اخيراً، راح يتذكر الامر مع مسحة حنين للماضي الذي زرع جمالاً فنياً وابداعياً عبر ثالوث رحباني - فيروزي، ويعتبر الخبرة التي اكتسبها في ذلك الرحم، قاعدة رئيسية لا تمحى. فمن المسرح الرحباني خرج إيلي شويري على رغم ان البداية كانت مع روميو لحود. في ذلك المسرح لعب الفنان ادواره التمثيلية الغنائية الكبرى وصار اسماً يتردد، ولعل دور "هبّ الريح" في "هالة والملك" هو الاثيري لديه، الاحب والاقرب والاخصب في الخيال. ولا تقلّ الشخصيات الاخرى الى اداها إيلي شويري في المسرح الرحباني اهمية ابداً، كونها شكّلت في النهاية خميرة ما اتى بعد ذلك من نتاج خاص، فني، اجتهد الرجل كثيراً في تظهيره وبث روحية وحيوية فيه تحمل توقيع إيلي شويري الشخصي. عبر عدد من الاغنيات، اولاً، فرض إيلي شويري نفسه كشاعر اغنية وملحن على مطربين ومطربات كثر، كون تلك الاغنيات حملت نكهة جديدة، فضلاً عن الاغنيات التي اداها بصوته، وكانت هي مفتاح العلاقة مع اهل الغناء بعدما توقف المسرح الرحباني عن نشاط موسمي معتاد. وبسرعة قياسية احتل شويري مكانة في "سوق" الغناء الذي مدّه برنامج "ستديو الفن" التلفزيوني بدم جديد، ومتعدد الالوان. غير ان إيلي شويري المطرب بعد سنوات قليلة راح ينحسر لصالح إيلي شويري الملحن لأكثر من سبب: أولاً - بدأ المزاج الشعبي ينحاز الى الشباب، ف"ستديو الفن" رسم خريطة مختلفة لأهل الغناء بحيث كان هواته ونجومه، شباباً وصبايا في العشرين وأحياناً اقل، وعلى نحو من الجمال الشكلي، ما أثّر على إيلي شويري الذي كان يومها على تخوم الاربعين، وربما في وسطها. ومع ان ذلك المزاج الشعبي لم يتعرض مطلقاً للرموز الفنية اللبنانية الكبيرة ممن كانوا اكبر سنّاً وقدراً وهم الجيل المؤسس، فإن ابناء الجيل الوسط الذي منه إيلي شويري مع كوكبة من رفاقه مثل جوزف عازار، وسمير يزبك، وعصام رجّي وملحم بركات له وضع خاص، قد وقعوا بين "شاقوفين" كما يقول التعبير العامي واهتزت صورهم التي كانت لفترة قد اخذت تتحرك نحو الصدارة. ثانياً - بدأ المزاج الشعبي، أيضاً، ينحاز الى مشهد المطرب "المتحرّك" الذي قد لا يتوانى عن الرقص مع جمهوره، واتجه المطربون والمطربات الى المشاركة في صنع ملامح معينة لحضور الفنان على المسرح يعبّر عنها بالايماءات والاشارات باليدين، وببعض الحركات الجسدية، وبترقيص القدمين على ايقاع الاغنيات إلخ... وهذا ما لم يكن إيلي شويري قادراً على تقبّله لأنه ضد طبيعته من جهة، ولأنه تربى فنياً على غير هذه المظاهر الفارغة من جهة ثانية، وعندما نعلم ان اثر الحرب اللبنانية الطويلة على الناس انعكس فنياً رغبة في "الفرفشة" والترفيه ونقض الواقع الحياتي اليومي الامني البائس بواقع "خيالي" مفترض قائم على ترويح الهموم لا غير، ندرك اية صعوبة كانت تنتظر إيلي شويري عند الباب. ... وآثر إيلي شويري الانسحاب كمطرب، وجلّ ما تبقى منه اغنيات متفرقة كان ينتجها بصوته ويدفع بها الى التداول رفعاً للعتب، في حين اختفت صورته واسمه وحضوره كمطرب حفلات تدريجياً اولاً ثم بالكامل بعد ذلك. اما شويري الملحن فقد كان يجوهر تجربته ويخوض في نمط اغنيات متنوع: الغرامي فيه له نبض الشجن العميق، والوطني فيه له لغة ثورية متدفقة نابعة من فكر وطني لا من شعارات مطاطة. وليس عابراً القول ان إيلي شويري ابتكر اسلوباً جمالياً نظيفاً في الاغنية الوطنية، ولفترة سابقة، كان اكثر المطربين الراغبين في انشاد وطنيات يقصدونه ويحصدون صيداً طيباً، وما زالت اغنياته الوطنية لدى الجمهور، ولدى اهل الغناء في آن، مسبوكة ومشبعة وابنة "حليب سباع" فني. واذ يعترف إيلي شويري انه اضطر، وأُجبر، وضُغط عليه بفعل ظروف الحياة الصعبة، فوضع اغنيات هو غير مقتنع بها اصلاً ولا فصلاً، لأصوات هو غير موافق عليها جملة وتفصيلاً، لجمهور هو غير جدير كان مسيطراً صعوداً ونزولاً في المجتمع، فلكي يتبرّأ من لعنة تصيبه حين يقال ان فن الحرب اللبنانية كان ابشع بكثير من الحرب اللبنانية نفسها! فهل هي مشكلة جيل ينتمي اليه إيلي شويري، أم أنها مشكلة إيلي شويري شخصياً؟!