إذا كان الفيلسوف الألماني هيغل قال مرة إن أحداث التاريخ الكبرى قد تتكرر مرة ثانية، فإن مواطنه كارل ماركس لم يفته أن يرد عليه قائلاً: لكن هذه الأحداث إذ تكون في المرة الأولى تراجيدية تصبح في المرة الثانية هزلية. والحال ان حكاية الارجنتين مع الزوجتين المتعاقبتين لزعيمها الأكبر في القرن العشرين خوان بيرون، تأتي لتثبت نظرية كارل ماركس متغلبة على نظرية هيغل. في المرة الأولى كان اسم الزوجة ايفا بيرون ايفيتا، عشقها الشعب وعشقت العدالة الاجتماعية، استثارت غضب الطبقات الرفيعة في المجتمع، وأغاظت قيادات الجيش وحبّبت الكثيرين بزوجها، حين كان مناضلاً وحين أصبح رئيساً بعد ذلك. حاول العسكريون اطاحتها، لكنهم تراجعوا بينما عاد موتها وكفاهم مؤونة ازاحتها في انقلاب عسكري أو ما يشبه ذلك. الزوجة الثانية كان اسمها ايزابيلا بيرون. تزوجها خوان بيرون بعد رحيل زوجته/ محبوبته الأولى. وحين عاد إلى السلطة أواخر العام 1972، بعد غياب سبعة عشر عاماً، كانت شريكة حياته وشريكته في الحكم أيضاً. ولكن لئن كانت بدورها أغاظت ضباط الجيش، فإن الشعب الأرجنتيني لم يخصها بود كبير. بعضه رأى فيها مجرد ظل للسيدة الأولى، وهي لم تغفر هذا أبداً. مع ذلك حاولت السيدة أن توجد لنفسها مكاناً. حين كان زوجها في عافيته قابضاً على السلطات بدت متسللة من موقع إلى موقع. ولكن في العام 1974، اعتلت صحة الزعيم، فكانت فرصة زوجته الذهبية لابداء مؤهلاتها كزعيمة، وهكذا أصبحت المسيطرة الفعلية على الحكومة. بعد أيام قضى بيرون نحبه. لكنه، وفي خطوة أخيرة قبل الموت أعلن ان ايزابيل ستكون خليفته في الحكم، وهي ظهرت من فورها على شاشة التلفزة لتعلن منتحبة موت الزعيم "الذي افنى حياته من أجل وحدة الوطن ووحدة القارة الأميركية اللاتينية" سائلة المولى أن "يريها الطريق إلى الأمام". من هنا، منذ اللحظة التي تسلمت فيها ايزابيل السلطة، بدأ الارجنتينيون يتوقعون انقلاباً عسكرياً يبعدها. وبالفعل لم يكتمل عليها عامان في الحكم، إلا وقام الضباط الكبار بانقلابهم المنتظر. حدث ذلك يوم 24 آذار مارس 1976، وكانت السيدة في الخامسة والأربعين من عمرها. والملفت ان الانقلاب الذي أزاحها كان أقل الانقلابات دموية في تاريخ أميركا اللاتينية، وحدث عند الصباح الباكر ولم يلق معارضة من أحد. عندما حدث الانقلاب كانت الرئيسة ايزابيل بيرون على متن طائرة مروحية تنقلها من مقر الحكومة إلى منزلها في إحدى ضواحي بوينس آيرس. والذي حدث هو ان طاقم الطائرة بدلاً من أن يطير بايزابيل إلى منزلها، حط بها في مطار مدني ونزلت من الطائرة لتجد شلة من الجنود شاهري السلاح تحيط بها، وجنرالاً مهذباً يخبرها أنها باتت رهن الاعتقال. على الفور سحبت الرئيسة مسدساً من حقيبتها لكنها فهمت بسرعة أن المقاومة مستحيلة، وتمكن الجنرال من انتزاع السلام من بين يديها. والمهم في كل ذلك ان ايزابيل كانت - على الأرجح - الوحيدة في الأرجنتين التي لا تصدق ان الجيش في طريقه للانقلاب علهيا. فالنقابات والأحزاب والصحف وبرامج التلفزة كانت جميعها تشير إلى حتمية وقوع انقلاب، بل ان إحدى الصحف وصفت بالتمام ما سوف يحدث، وذلك قبل أيام من حدوث ما حدث. بقي أن نذكر ان ايزابيل ظلت معتقلة ومغضوباً عليها، حتى شهر أيلول سبتمبر من العام 1983 حين شملها عفو الرئيس الجديد آنذاك بغنوفي...