الذين هلّلوا وابتهجوا بالاتفاقية التي عقدتها حركة طالبان الأفغانية مع خصومها من ممثلي المعارضة الشمالية المسلحة برعاية دولية في العاصمة التركمانية عشق آباد في الرابع عشر من آذار مارس الجاري، تجاهلوا حقائق كثيرة في الملف الأفغاني الدامي والمعقد، وغضوا الطرف عن الجوانب الغامضة الكثيرة في الاتفاقية والتي يحتاج كل جانب منها الى اتفاقيات اخرى منفصلة تحدد على الاقل معالمها ان لم نقل آليات تنفيذها. لقد كانت اتفاقية عشق آباد حدثا مفاجئياً اخذ المراقبين بدهشة لا تقل عن الدهشة التي اعترتهم يوم ظهرت حركة طالبان على الساحة الأفغانية عام 1996 فجأة ومن دون مقدمات او عندما اكتسحت هذه الحركة فجأة ثمانين في المئة من الارض الأفغانية في غضون ايام. لكن العبرة ليست بوقوع الحدث او الشكل الذي يتخذه وانما بما يحمله من نتائج وتأثيرات على الوضع العام. فصعود حركة طالبان مثلاً الذي بشر به البعض على انه بداية الخلاص لأفغانستان من تجار الحروب والخطوة الاولى نحو قيام سلطة مركزية قوية وعادلة تعيد السلام والطمأنينة الغائبة الى الجميع، سرعان ما جاء بنتائج كارثية وادخل البلاد في متاهات وحمامات دم جديدة ناهيك عن تأسيسه لنظام استئصالي متعسف النهج تحت ستار تطبيق الشريعة التي هو اجهل الجاهلين بأصولها ومبادئها الصحيحة. ويمكن القول استناداً الى التاريخ الطويل للفصائل الجهادية الافغانية في نقض الاتفاقات والعهود والمواثيق قبل ان يجف حبرها، ان الاتفاقية الجديدة سوف يكون مصيرها مصير سابقاتها، بمعنى ان اطرافها سوف ينقلبون عليها ويتخلون عن مضامينها سريعاً. بل ان الانباء الواردة من افغانستان تؤكد ان التراجع قد بدأ وان كل طرف يقدم تفسيرات متضاربة لما اتفق عليه، فضلاً عن التزام رموز كبيرة من الطرفين لأسلوب الصمت والامتناع عن التعليق الايجابي. واذا كانت اتفاقية سلام كتلك التي وقعت عام 1992 ما بين الفصائل الأفغانية المتحاربة في مكةالمكرمة، بكل ما كان لها من خصوصية مستمدة من ابرامها بجوار المسجد الحرام ثم من رعايتها من قبل قوى اقليمية فاعلة لها افضال كثيرة على المجاهدين، قد خرقت وصارت شيئا من الماضي على الرغم من وجود قواسم مشتركة كثيرة ما بين اطرافها، فكيف لاتفاقية غامضة تنقصها التفاصيل ولا تتمتع بأي خصوصية مثل اتفاقية عشق آباد ان تصمد، خاصة وان لا قواسم مشتركة البتة ما بين الطرفين في السياسات والرؤى في ظل وجود حركة استئصالية متطرفة كحركة طالبان التي تعتقد ان لها وحدها دون سواها حقاً إلهياً في حكم افغانستان وما على الآخرين سوى الطاعة العمياء لها. اما الذين يردون بالقول ان الظروف وموازين القوى المحلية والاقليمية قد تغيرت وان هناك اليوم ضغوطاً دولية حثيثة على اطراف الصراع الأفغاني للوصول إلى اتفاق غير قابل للنقض، فان في حديثهم جانباً من الصحة. اذ مما لا شك فيه ان حركة طالبان رغم نجاحاتها على الارض فشلت في انتزاع اعتراف دولي بها كنتيجة لخروقاتها العنيفة لحقوق الانسان وتمسكها بمنهاج تكفيري وممارسات حمقاء وسياسات مشجعة للارهاب فصارت تعيش عزلة دولية مريرة، لا سيما بعد سحب المملكة العربية السعودية اعترافها بها وتكالب الضغوط الاميركية عليها من اجل تسليم المنشق اسامة بن لادن ناهيك عن ضغوط منظمات حقوق الانسان والمرأة ومكافحة المخدرات التي لم تنفع في مواجهتها ادعاءات الحركة باختفاء ابن لادن او فتاويها بشأن تحريم زراعة المخدرات والسموم. ومن جانب آخر فإن الدولة الباكستانية التي تربت الحركة في احضانها وساعدتها مادياً وعسكرياً ولوجستياً على الانطلاق صارت اكثر حذراً في التعامل معها في عهد نواز شريف الاخير، لا سيما بعد ان صارت قواعدها وانصارها في بيشاور الباكستانية بمثابة المصنع المفرخ للمتطرفين والأصوليين المتربصين بمؤسسات وانظمة الدولة الباكستانية، ناهيك عن الضغوط التي تتعرض لها اسلام آباد من واشنطن لتضييق الخناق على طالبان. ويجب الا ننسى في هذا المقام ضغوط بكين على حليفتها الباكستانية للقيام بالشيء نفسه بعدما اكتشف الصينيون وجود روابط مابين طالبان والحركة الاسلامية في اقاليمهم الغربية. أما لفصائل الشمالية المعارضة فهي الاخرى في وضع لا تحسد عليه. فالى جانب خسائرها الميدانية وصعوبة حصولها على العون الخارجي بسبب حصار جزئي من طالبان، تعيق موسكو التي تقوم بدور امني كبير في جمهوريات آسيا الوسطى المتاخمة لأفغانستان، قيام هذه الفصائل بأعمال قتالية واسعة خوفاً من ان تواجه بأعمال مماثلة من قبل حركة طالبان قد ينجم عنها اقتراب الاخيرة اكثر فأكثر من الحديقة الخلفية لروسيا الاتحادية ونعني بها اوزبكستان وطاجيكستان اللتين لا تخلوان من فصائل اسلامية متطرفة ساعية الى السلطة. و لئن كان بالامكان القول ان كل هذه المتغيرات والضغوط او بعضها قد ساهم بشكل أو بآخر في اقناع طالبان بالجلوس والاتفاق المبدئي مع خصومها، فإنه من الصعب والسابق لأوانه القول بأنه نجح في اقناع الطرفين وخاصة حركة طالبان بتغيير نهجها وخلق ارادة قوامها ضرورة اعتراف كل طرف بما يمثله الطرف الآخر من ثقل على الساحة وان للجميع الحق في الاشتراك في السلطة بغض النظر عن العرق او المذهب او الايديولوجية او التحالفات السابقة لانتصار المجاهدين. ولننظر نظرة متفحصة لبنود اتفاقية عشق آباد وما قيل على هامشها من تصريحات وما أثير حولها من تساؤلات لنتبين كم ان اطرافها متباعدون وغير جادين، وان العملية لا تعدو ان تكون مجرد اتفاق على التقاط الأنفاس ومحاولة للتملص من الضغوط الخارجية الى حين ليس إلا: أولاً: دعت الاتفاقية الى تأسيس سلطات تنفيذية واشتراعية وقضائية ائتلافية ما بين طالبان والمعارضة الشمالية من دون التطرق الى اي تفصيل تاركة الموضوع برمته لاجتماع يعقد الشهر القادم في افغانستان. وحتى في هذه الجزئية لم يحدد مكان او زمان مثل هذا الاجتماع تحديداً دقيقاً. ثانياً: بمجرد عودته الى كابول أعلن رئيس وفد طالبان ملا وكيل احمد متوكل لراديو صوت الشريعة الناطق باسم امارة افغانستان ان الاتفاقية لا تعني تشكيل حكومة ائتلافية مع المعارضة في المستقبل القريب، وان كل ما جرى الاتفاق عليه ليس سوى موافقة مبدئية على اجراء محادثات مع ممثلي الولايات الأفغانية المختلفة في وقت لاحق لتحقيق السلام. ثالثاً: لم تلق الاتفاقية أي رد فعل ترحيبي من كبير لوردات الحرب الأفغانية احمد شاه مسعود الذي لا يمكن تجاهل مواقفه كونه الوحيد الذي قاتل ويقاتل حركة طالبان، ويحتفظ بالسيطرة على عشرة بالمئة من الأرض الأفغانية مع وجود قواته على بعد 25 كيلومتراً الى الشمال من العاصمة كابول. رابعاً: نقل عن مندوب حركة طالبان في نيويورك عبدالحكيم مجاهد ان حركته سوف تمنح المشاركة السياسية فقط للجماعات التي تقبل بشرعية امارة افغانستان وزعامة امير المؤمنين ملا محمد عمر. وبهذا فقد وضع لغماً مبكراً امام امكانية قيام حكومة ائتلافية في افغانستان لأن المعارضة لا يمكنها القبول بالأمر الواقع والانضواء تحت قيادة محمد عمر، والا لما قاتلت حركته كل هذه المدة. خامساً: اذا كان من الممكن تصور اقتسام طالبان للسلطة مع جماعات من المعارضة من امثال الرئيس المخلوع برهان الدين رباني او قلب الدين حكمتيار او عبدالرسول سياف فانه يصعب، بل يستحيل، تصور موافقتها خلال المحادثات القادمة ان قُدر لها ان تُعقد على الائتلاف مع جماعات المعارضة الاخرى التي وصفتها بأقذع الأوصاف بل اعلنت عن تكفيرها وتخوينها، مثل الشيعة المتحالفين مع طهران وجماعة عبدالرشيد دوستم وعبدالمالك بهلوان المتهمة بالتحالف مع السوفيات في الثمانينات. وحتى لو افترضنا جدلاً موافقة طالبان على ذلك فان هذه الجماعات لن تقبل بدورها الاستسلام للخط الاسلامي المتشدد الذي تحاول طالبان فرضه على البلاد. سادساً: فصائل المعارضة الشمالية نفسها لا يمكنها الدخول في مفاوضات جادة مع طالبان ككتلة واحدة، على اعتبار انه لا قاسماً مشتركاً بينها سوى العداء لهذه الاخيرة، الأمر الذي يعني انقسامها وتشرذمها في أي محادثات مقبلة. سابعاً: لم يقرر المتفاوضون في عشق آباد سوى تبادل عشرين اسيراً من كل طرف فقط فيما التقارير تؤكد وجود آلاف الأسرى، مما يؤكد ان نية اللجوء الى السلام وخلق الثقة غائبة في واقع الأمر. ثامناً: ولعل ما يؤكد هذا الامر اكثر ان الاتفاقية لم تتبن اي قرار بشأن وقف اطلاق النار تاركة مثل هذا الاجراء الى وقت لاحق، أي الى ما بعد التوصل الى اتفاق حول تشكيل سلطة ائتلافية. ان تاريخ افغانستان يؤكد بشكل قاطع ان هيمنة جماعة عرقية او طائفية واحدة على السلطة في البلاد وتهميش الجماعات الاخرى لن تحقق سوى سلام هش قصير وغير قابل للاستمرار طويلاً. لكن هذه الحقيقة البسيطة ظلت مغيبة طويلاً وربما طال تغييبها في ظل وجود نهج كنهج طالبان. × كاتب خليجي.