كتب عدة صدرت عن سيدة الغناء العربي الراحلة أم كلثوم، لكن "صوت مصر" The Voice of Egypt الصادر بالانكليزية عن الجامعة الأميركية في القاهرة كتاب ذو نكهة مختلفة، ليس فقط لأن مؤلفته أميركية، لكن لأنه دراسة متعمقة في المجتمع المصري من خلال أم كلثوم. بداية أم كلثوم ومسيرتها الفنية تكادان تكونان معروفة لدى الجميع، لذا فإن الكتاب يتناول زوايا أخرى جديدة من خلال تحليل مسيرة فتاة ريفية أصبحت رمزاً حضارياً لأمة بأكملها، بل إنها ساهمت في تشكيل جانب من حياة المصريين الاجتماعية والثقافية، وايجاد ايديولوجية خاصة بهم. تقول الكاتبة فيرجينيا دانيلسون إن "صوت مصر" - أي أم كلثوم - كان نسائياً، وهو واقع يقف في وجه المعتقد السائد بأن نساء العرب ساكنات ولا حول لهن ولا قوة. ونظرة سريعة على المطربات في القاهرة تعطي صورة عن نوعية النشاط الذي تقوم به النساء العربيات، والمساحة الواسعة التي يشغلنها في الحياة اليومية في المجتمع. وقد بدأت أم كلثوم مسيرتها الفنية وهي طفلة بالأغاني الدينية وترتيل القرآن، وهما مجالان مألوفان لدى كل المصريين بغض النظر عن مستواهم الاقتصادي والاجتماعي أو المنطقة التي يقطنون فيها. ومن الترتيل الديني الى الغناء في منازل الأهل والأصدقاء، ومنها إلى الأماكن العامة وهي في بداية صباها. ثم انتقلت وأسرتها الى القاهرة. وتتساءل الكاتبة: كيف استطاعت أم كلثوم - هذه الفتاة الريفية البسيطة والمنتمية الى أسرة فقيرة - أن تجذب إليها جمهوراً قوامه الفلاحون الفقراء وكبار الساسة في آن واحد؟ وبين عامي 1922 و1928 تحولت أم كلثوم من مغنية غير معروفة تحمل لقب "شيخة" الى نجمة. ومع انتعاش الاقتصاد المصري النسبي في العشرينات، ساهم المصريون من الطبقتين الراقية والمتوسطة في إنعاش صناعة الترفيه - ومنها الغناء - وذلك بإقبالهم على شراء تذاكر الحفلات والتسجيلات. وفي العام 1926 حدثت نقطة التحول في حياتها والتي أكدت نجاحها وأزاحت عنها أي شبح للاندثار. بدأ التحول باختيار أم كلثوم لنفسها أشكالاً متسقة سواء في موسيقاها أو في مظهرها الخارجي. وقد جمعت في الختام بين الأزياء السائدة في اوساط السيدات المسلمات الراقيات والموضة الرائجة. كما زاد اتجاهها الى اغاني الحب التي كتبها ولحنها لها كل من أحمد رامي ومحمد القصبجي. ثم أقدمت أم كلثوم على خطوة جريئة في العام نفسه حين استبدلت الفرقة المصاحبة لها من أفراد أسرتها بتخت موسيقي على مستوى رفيع. وساعدها هذا من ناحيتين: الأولى وهي أن وجود أفراد عائلتها من الذكور إلى جوارها بصفة دائمة أضفى عليها هالة من الجدية الفنية الزائدة، فانقلب أثر ذلك على صورتها سلباً. والثانية أن استعانتها بأفضل موسيقيين في تختها الجديد محمد العقاد "القانون"، وسامي الشوا "كمان"، ومحمد القصبجي "عود"، ومحمود رحمي "رق" وغيرهم، جعلتها رمزاً للتقنية الفنية العالية، والحداثة، والى حد ما "للعلمانية"، وذلك بعيداً عن "الشيخة أم كلثوم". وعلى الرغم من تأثر فرصها الفنية ودخلها المادي بتدهور حالة الاقتصاد، إلا أن نجاحها في حل قبضة كل من فتحية أحمد ومنيرة المهدية على عالم الغناء، أتاح لها تنظيم أمورها بأسلوب خاص بها ويرتكز على سلطتها القوية التي اكتسبتها. وفي الثلاثينات، ومع تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في مصر، والاحتلال، وتفاقم مشكلة فلسطين، عاد الحديث عن الحاجة لتوكيد الدفاع عن الإسلام كبديل اجتماعي وديني. وعكست المناقشات السائدة في هذه السنوات حنيناً الى الماضي وحياة القرية والاستقرار، وهو حنين لم يخلو من النغمات الرومانسية. وفي الحقبة نفسها، بدأت أم كلثوم تحيي مجموعة من الحفلات المذاعة على الهواء مساء الخميس من أول كل شهر. واستمرت هذه الحفلات المذاعة الى عام 1973. وتحت عنوان "التفاوض مع العامة"، تقول المؤلفة إن الحفلات العامة دائماً تسبب مشاكل للمطربين، وعلى كل منهم ان يواجهها بطريقته، وتشير إلى أن عدداً من الفنانين - ومنهم أم كلثوم - كان يلجأ إلى "البلاط". والمقصود ب"البلاط" هو اصطحاب المطرب لعدد من مشجعيه ومحبي فنه الى الحفلات العامة، حيث يعبرون عن استحسانهم بصوت عال. واتخذ "البلاط" شكلاً مقنناً في قاعات الحفلات والمسارح في القاهرة، حتى أن عقود الفنانين كانت احياناً تحوي فقرة خاصة تقضي بتوفير مقاعد مجانية لأفراد "البلاط". واعتمد المطربون أيضاً على علاقاتهم الشخصية بالمصريين من ذوي السلطة والقادرين على حل المشاكل التي قد يواجهونها. وكان اولئك الاصدقاء والمعجبون يتوافدون على بيت أم كلثوم في حضور والدها وشقيقها. وأتاح لها عملها مقابلة شخصيات عامة مثل طلعت حرب، احمد شوقي، عباس محمود العقاد، مكرم عبيد، وفكري أباظة وغيرهم. ومع بداية الاربعينات، بدأ الاقتصاد المصري يتعافى ولكن ببطء شديد. وأعطت المعاهدة المصرية - البريطانية الموقعة في عام 1936 قدراً ضئيلاً من الاستقلال. إلا أنه في عام 1939 وقع المصريون مرة أخرى تحت وطأة ما أسموه ب"الحرب الأوروبية"، وما حملته معها من مصاعب اقتصادية شديدة . وزاد من الأزمة، تقسيم فلسطين. وجاءت حرب فلسطين، لتكون كارثة محققة. فشل الرومنطيقية وفي هذا الإطار، فشل أسلوب "الهروب الرومانطيقي" الذي كان سائداً في العشرينات والثلاثينات من الوصول الى جمهور المستمعين. وفجأة وفي بداية الاربعينات، تبنت أم كلثوم لغة جديدة في أغانيها أقرب الى عامة المصريين من كلمات رامي وألحان القصبجي. وأصبحت أم كلثوم تمثل عمال مصر في أغانيها وأفلامها. ولعب كل من زكريا أحمد وبيرم التونسي دوراً كبيراً في أغانيها التي قدمتها أثناء الحرب العالمية الثانية. غدت الأفلام التي قدمتها أم كلثوم في الاربعينات تعبيراً عن الاتجاه الشعبي العام في ذلك الوقت. فهي مثلت في "فاطمة" دور الممرضة الفقيرة التي تتعرض للمعاملة السيئة من ابن الباشا الثري. ثم زواجها بشقيق باشا ثري آخر إرضاءً لأهوائه. وعكس ذلك الأفكار السائدة بأن الأثرياء يتصرفون من دون احساس بالمسؤولية، وكذلك أهمية تضامن الجيران والأصدقاء، وأهمية مقاومة المرأة العفيفة لأية إغراءات. وفي عام 1946، قدمت أم كلثوم مجموعة من القصائد الجديدة، معظمها من كلمات أحمد شوقي وموسيقى رياض السنباطي. وجميعها اندرج تحت بند "الكلاسيكية الجديدة"، وكانت هناك صلة قوية بين الكلمات التي شدت بها وبين التعبير عن الدين الاسلامي، مما رسّخ القيم العربية والاسلامية باعتبارها ركيزة للتقدم الثقافي. من بين هذه القصائد "سلوا قلبي" و"ولد الهدى" و"نهج البردة" و"الرباعيات". ويبدو أن أم كلثوم اتخذت قرار غناء هذه القصائد وحدها، إذ حذرها المحيطون بها من أن أحداً لن يحب سماع هذه القصائد القديمة التي يغلب عليها الطابعان الديني والأخلاقي. وترد أم كلثوم قائلة: "ان جمهوري في حالة صوفية"، وفعلاً حققت القصائد نجاحاً جيداً، واحتلت ساعات بث طويلة. ومرت الأيام وبعد حفلاتها الرائعة وسجل حافل من الانجازات في حقبة الاربعينات، عانت أم كلثوم سلسلة من المصاعب الطبية والشخصية، وفكرت في الاعتزال. فبالاضافة الى مشاكل في الكبد والمرارة والعينين والجهاز التنفسي وخوفها الشديد على ادائها من جراء الأخيرة، توفيت والدتها في عام 1947 والتي لم تفارقها طوال حياتها. وبعدها بفترة وجيزة توفي شقيقها، وتزامن ذلك وفشلها في زواجها. وفي عام 1946، تقدم لخطبتها شريف صبري باشا، أحد أعمام الملك فاروق، إلا أن العائلة المالكة وقفت دون هذه الزيجة، مما سبب حزناً شديداً لأم كلثوم. وفجأة وافقت على الزواج من الموسيقي محمود شريف، لكن الزواج لم يدم سوى أيام. وأخيراً تزوجت أحد اطبائها الدكتور حسن الحفناوي، وذلك في عام 1954. وحين قامت ثورة تموز يوليو عام 1952، كانت أم كلثوم في مصيفها المعتاد في مدينة رأس البر، فعادت الى القاهرة، وطلبت من رامي والسنباطي إعداد أغنية وطنية مناسبة، فكانت "مصر التي في خاطري وفي دمي". بين عامي 1952 و1960، غنت أم كلثوم عدداً لم يسبق له مثيل من الاغاني الوطنية، حتى أنها سجلت أغنيتين وطنيتين لكل من الكويت والعراق في الستينات. وقدمت أم كلثوم نفسها كمتحدث عام عن قضايا سياسية واجتماعية عدة. وتحدثت ب"صوت سياسي عن قضايا تهم كل مواطن مصري محترم". ونشأت صداقة بينها وبين الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في الخمسينات. ووصفها البعض بأنها سلاح قوي لعبدالناصر، إذ كانت حفلاتها تشجع المبادئ والأفكار السياسية السائدة حينئذاك. وتشير المؤلفة إلى أن أم كلثوم وعبدالناصر كانا متشابهين في أمور عدة: فكلاهما جاء من الطبقة الفقيرة، وكلاهما استغل الفرصة للتحرك الى أعلى. وكلاهما تمتع بشخصية قوية نجحت في الوصول الى عامة الشعب المصري. وأخيراً اعتمد كلاهما صورة واضحة للظهور أمام العامة "فلاحين وأبناء ريف". وحين استعادت أم كلثوم صحتها، عادت الى الحفلات العامة، ويمكن إطلاق عبارة مسرح جديد على هذه الحقبة من فنها. بدأت تقدم اغاني العشق والغرام التي كتبها ولحنها أبناء الجيل الجديد. واتخذت العلاقة بينها وبين ابناء هذا الجيل شكلاً عملياً يخلو من الولاء الشخصي الذي كان يحكم علاقتها برامي مثلاً. إلا أن الخطوة الأكثر دراماتيكية التي خطتها أم كلثوم في هذه الحقبة كانت تعاملها مع محمد عبدالوهاب. ورغم تخوف كليهما من الآخر، نظراً لشعبيتهما - إلا أن أغنية "أنت عمري" حققت أرقاماً خيالية في مصر والعالم العربي وذلك على رغم وصف البعض لها بأنها "رقصة وليست أغنية". وتستخلص المؤلفة في نهاية الكتاب أن أم كلثوم وملحنيها - أسسوا الأغنية بتعريفها المصري الحديث، من حيث المقدمة، ثم تقديم الصوت، والتنويع في النغمات وغيرها. وقد ظلت الاذاعة الوسيلة الأساسية لوصول أم كلثوم الى جمهورها وذلك الى نهاية حياتها. وفي عام 1960، شاركت أم كلثوم في افتتاح التلفزيون المصري الذي عرض لها عدداً من حفلاتها المسجلة. إلا أنها لم تسمح بتصوير كل حفلاتها لأنها شعرت أن الاضواء القوية الكاميرات قد تزعج الجمهور. وفي حال الاتفاق على تصوير الحفلة، كانت تختار المصور بنفسها، ولا تسمح بأي لقطات قريبة. وكانت حجتها في ذلك أن جمهور التلفزيون يجب أن يشاهد الحفلة من الزاوية نفسها التي يشاهدها جمهور المسرح. وتتناول المؤلفة أم كلثوم بصفتها الأكثر قدرة على جمع التبرعات، وذلك من خلال حفلاتها في أعقاب هزيمة عام 1967، وتشير الى تحليل البعض بجهود أم كلثوم أنها هدفت الى رد الاتهامات القائلة بانها أحد أسباب الهزيمة بسبب صوتها الذي يشل حركة المصريين بدلاً من إيقاظهم. واكتسبت أم كلثوم موقعاً أكبر من مجرد فنانة، إذ أصبحت "صوت مصر ووجهها". واللغة التي تستخدم لوصف شخصية أم كلثوم مثل "فلاحة" و"أصيلة" و"من المشايخ" كلها تستخدم مشوبة بقيمة عالية، وجميعها صور قريبة ومحببة الى قلوب الملايين من المصريين. وفي أحوال عدة، كانت أم كلثوم تبدو كسيدة كثيرة المطالب، تصرّ على رأيها، وذات روح دعابة حادة. ولم تبدأ هذه الصورة في اللين إلا بعد مرور سنوات طويلة، وشيوع القصص والحكايات عن كرمها. المؤكد أن الصورة التي ظهرت بها كانت مبنية بناءً دقيقاً، إلا أنه لم يكن صناعياً ولا مزيفاً. لقد تعلمت أم كلثوم تقنية تقديم نفسها بالطريقة التي تريد أن تكون معروفة ومذكورة بها. توفيت أم كلثوم في 3 شباط فبراير عام 1975، ويومها ازدحمت شوارع القاهرة بالجماهير المصرية. ولم تسر الجنازة كما كان مخططاً لها، إذ تبادل ملايين المواطنين حمل نعشها لنحو ثلاث ساعات، مما دعا شيخ جامع عمر مكرم الى تذكير الملايين أن أم كلثوم كانت سيدة متدينة، ولا شك تود أن يدفن جسدها بسرعة، اتباعاً للتعاليم الاسلامية. كانت أم كلثوم ولا تزال تتمتع بحضور قوي في الثقافة المصرية. كانت مطربة أولاً واخيراً. وكانت موسيقية بأساليب غير مباشرة، وكانت سيدة أعمال ناجحة. وعلى عكس ما وصفها أحد علماء السياسة المصريين انها شخصية مُسيسة، كانت أم كلثوم تعمل في مناخ سياسي. لكنها لم تعكس مواقف اجتماعية، بل كانت تروج لها وتدعمها، وأبرزها أغانيها التي عبرت عن اتجاهين: الكلاسيكية الجديدة والشعبية. وقد أثبت هذان الاتجاهان فشل الغرب في تقديم بدائل اجتماعية وسياسية للمجتمع المصري. وفي التسعينات، اختلفت طريقة استخدام أغاني أم كلثوم. المطربون الصغار يقدمون مقاطع صغيرة من أغنياتها، الإذاعة والتلفزيون يبثان اغانيها، وإن كانت شرائط الكاسيت والاسطوانات المدمجة التي حملت اغنياتها تحقق أرقاماً مرتفعة. إلا أن أم كلثوم تبقى في الوقت الحالي مثالاً يقاس به الآخرون. وينظر إليها الملايين بعين ملؤها الحنين، ليس فقط لصوتها، إنما للزمن الجميل وللمناخ المتفائل والواعد بمستقبل أفضل والذي كان سائداً في الخمسينات.