أخيراً حققت تركيا - الدولة والمؤسسات الامنية والسياسية تحديدا- حلمها بالقبض على عبدالله اوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني، الذي تحمله أوزار آثار سياستها في معالجة القضية الكردية طوال ستة وسبعين عاما متصلة هي عمر الدولة التركية الحديثة. ومن حق تلك المؤسسات ان تفخر، كما فعل تماماً رئيس الوزراء التركي بولند اجاويد، بأنها وعدت بالقبض على عدوها الرقم واحد وأوفت بما وعدت. وهو فخر يعني، رمزاً وضمناً، أن استراتيجية تركيا التي طبقتها منذ خروجه من سورية آخر العام الماضي ازاء كل الاطراف الدولية التي أبدت قدراً من التعاطف، او رغبت تلميحاً في تقديم ملجأ لأوجلان حققت اهدافها. وهي استراتيجية جمعت بين التهديد والترغيب والاستعانة بالضغوط الاميركية الظاهرة والخفية معاً، وتوظيف لفظة الارهاب المرفوضة سياسياً ومعنويا في دفع الدول والحكومات الى رفض استقبال اوجلان. وهنا يكمن النجاح السياسي، جنباً الى جنب العملية بشقها الامني من حيث المتابعة والتنصت والايقاع بالفريسة من دون خسائر والتعاون الاستخباراتي مع اكثر من طرف. غير ان الوعد الاخر بمحاكمة عادلة وذات شفافية مناسبة لهذا العدو قد لا يتحقق ابدا، فالاتهامات التي لا تُعد ولا تُحصى والشحن النفسي العام المضاد للشخص محل المحاكمة، وحال الشجن العام نتيجة الشعور بالانتصار الحاسم، وضغوط الرأي العام، فضلاً عن طبيعة ومكانة - بالمعنى الحيادي للتعبير- شخصية اوجلان نفسه كرمز كردي يشير الى الاستقلال والكفاح، كلها عوامل تحد كثيرا من احتمال اجراء محاكمة ذات شفافية مناسبة. هذه العوامل لا يمكن تجاهلها تماماً. بيد انه لا يمكن الاستناد اليها وحدها في استبعاد احتمال المحاكمة العادلة، فمن جانب آخر هناك الضغوط المحتمل ان تتعرض لها الحكومة التركية سواء رسمياً او اعلامياً من جانب الحكومات الاوروبية وجماعات حقوق الانسان والتجمعات الكردية التي تعيش في البلدان الاوروبية، ناهيك عن رغبة تركيا في اكتساب سمعة حسنة في مجال القضاء وحقوق الانسان. والمجال الاخير تحديداً كمدخل للتخلص من الانتقادات الاوروبية التي تقف حجر عثرة امام أمل وطموح الانضمام التركي الكامل في هيكلية الاتحاد الاوروبي. مثل هذا الوضع يجعل من احتمال المحاكمة العادلة بما تعنيه من حق الدفاع الكامل وعدم التعذيب للمتهم وتوفير ظروف سجن عادية، مشكلة كبرى بكل ما تعنيه الكلمة، ليس فقط للاجهزة الامنية التركية والنخبة السياسية الحاكمة، بل ايضا لكل من له علاقة بالقضية الكردية، وتبدو المؤشرات الاولى غير مشجعة مثل إبعاد محامي اوجلان عن تركيا والبيانات المقتضبة التي تجود بها السلطات حول وضع اوجلان العام ومجريات التحقيق معه. المحاكمة العادلة ليست هي المعضلة الوحيدة التي يثيرها القبض على اوجلان، اذ توجد معضلات اخرى لا تقل اهمية منها، علاقة القبض على اوجلان باحتمالات تسوية القضية الكردية تركياً، وشكل هذه التسوية ونتائجها المرجوة سياسياً واستراتيجيا. إن نشوة الشعور بالانتصار لدى النخبة السياسية التركية له مخاطره الجمة، ابرزها الاعتقاد بأن القضية الكردية انتهت بمجرد القبض على اوجلان، ومثل هذا الادراك القائم على شخصنة القضية وتجاهل عناصرها البنيوية من تاريخية وإثنية وثقافية واقتصادية واجتماعية، ليس سوى امتداد للادراك الذي حكم الموقف التركي طوال العقود السبعة الماضية، وقوامه ان لا شعبَ كردياً متميزاً، وان المسألة مرهونة بعناصر ارهابية توظف العنف لهدم الدولة التركية ووحدتها، وان القضاء على هذه العناصر الارهابية عبر عنف الدولة المضاد هو السبيل الوحيد للخروج من المأزق. ربما تساعد هذه الاستراتيجية على توقيف العنف فترة ما، او احتوائه، ولكنها لا تعني بالضرورة انها ستحل المسألة الكردية داخل تركيا، ويعطي التصريح الذي ادلى به بولند اجاويد رئيس وزراء تركيا مؤشرا على عدم تغير النظرة التركية ازاء المسألة الكردية، فمن وجهة نظره ان القبض على اوجلان سيؤدي الي وقف العنف، ويسمح بالتالي لجهود الدولة بتنمية المناطق الجنوبية الشرقية، ولكن الحل من وجهة نظره لن يكون سريعاً نظراً الى الطبيعة الاقطاعية التي تسود في هذه المناطق. وهذا يكمن وجه اخر للمسألة الكردية داخل تركيا، انه تجاهل الهوية الذاتية لهذه الجماعة البشرية، والارتكان الى ان الامر لا يتطلب سوى تطبيق جملة برامج تنموية ترفع من المستوى العام للمعيشة في المناطق التي يسود فيها الاكراد، ورغم اهمية هذا البعد، والذي يصلح في احتواء مصادر التوتر الاجتماعي عموما بين ابناء وطبقات مجتمع واحد متجانس، فإنه يبدو قليل الفاعلية في ما يتعلق باحتواء المشاكل ذات الطابع العرقي والمتعلقة بصراعات ممتدة ذات جذور تاريخية وإثنية ومناطقية، والتي تتطلب بدورها اقتراباً مختلفا يستند الى توفير فرصة لتجسيد الحقوق الطبيعية للجماعات الانسانية المختلفة في اطار ديموقراطي حقيقي. غياب مثل هذه الاقترابات التي تعترف بالحقائق كما هي، وسيادة توجه يركز على الفرع وينحرف عن الاصل والجذور يمثل جوهر المسألة الكردية في تركيا، ولا يبشر بدوره في حدوث انفراج حقيقي في المدى القريب. لا تتوقف نتائج القبض على اوجلان على تركيا وحسب، فأحد ابرز الاطراف الاكثر تأثرا بهذا التطور هو حزب العمال الكردستاني نفسه، فقيادة اوجلان المؤسس للحزب وصانع استراتيجيته في الكفاح المسلح وقدراته الكاريزمية البارزة، وشعبيته الطاغية بين الاكراد الاتراك وغيرهم في بلدان اخرى، وطبيعة العمل السري للحزب والمناخ الدولي العام الرافض للاساليب العنيفة للتغيير، تجعل الحزب أمام منعطف جد خطير، وهناك من القضايا التي ستفرض نفسها على اي قيادة جديدة للحزب، لعل من ابرزها القدرة على الاستمرار بزخم مناسب في ظل الضغوط العديدة التي يتعرض لها الحزب. الزخم المناسب هنا لا يعني ضرورة اتباع العنف كاستراتيجية لا مناص منها، وانما يعني القدرة على فرض القضية الكردية على الاجندة الداخلية لتركيا عبر الاساليب السياسية والاعلامية المختلفة. المهم ان تعي القيادة الجديدة لحزب العمال الكردستاني الدروس الحقيقية من خبرة عقد ونصف العقد من العمل المسلح، وما اثمرته فعلا من نتائج. لقد حملت التصريحات الاخيرة لأوجلان قبل القبض عليه نوعاً من المراجعة لاستراتيجية الكفاح المسلح ولهدف انشاء كيان كردي مستقل، وطرحت حلاً يقوم على المبادئ الديموقراطية بمعنى الاعتراف بحقوق الاكراد الثقافية والسياسية والعرقية، وتضمنت اشارات الى نوع من الفيدرالية وحكم ذاتي موسع في ظل الحدود القائمة للدولة التركية. ومن اليسير القول إن هذه المراجعة كانت بهدف استقطاب التأييد الاوروبي، ولتسهيل الحصول على حق اللجوء السياسي في احد البلدان ونفي الاتهامات الخاصة بالارهاب، والتأكيد على التحول الى اساليب سلمية مقبولة. لكنه من الصعوبة بمكان الاستنتاج بأن تلك المراجعة التي تضمنتها تصريحات اوجلان قبل القبض عليه هي مراجعة عامة للحزب وانها استندت الى حوارات داخلية بين القيادات والقواعد المختلفة. ويقودنا ذلك الى استنتاج آخر يتعلق بالحزب في ظل تولي قيادة جديدة. فالمؤكد ان اي قيادة جديدة سيكون عليها الانطلاق من معطيات مختلفة عن تلك التي بدأ في ظلها اوجلان قبل عقد ونصف العقد، وانها ستكون محملة، بصورة او بأخرى، بأعباء معنوية وسياسية نتجت عن خبرة المواجهة مع الدولة التركية. فضلا عما يمكن ان يخرج عنوة من فم اوجلان من معلومات عن الحزب وأسراره وأماكنه وتمويله وتدريبه وغير ذلك مما قد يعري الحزب تماما. ووفقا لسوابق تاريخية سابقة فإن اي قيادة جديدة تأتي بعد قيادة ذات طابع كاريزمي تحاول ان تفرض نفسها واسلوبها في العمل حتى لو تطلب ذلك اعادة نظر شاملة للخبرات السابقة والتخلص من رفاق سابقين، ولذلك فان الانعطافة الراهنة التي سيكون على حزب العمال الكردستاني عبورها ستكون حاسمة. ويتوقف عليها وجود الحزب ذاته، وتعديل استراتيجيته، وإعادة بث المسألة الكردية/ التركية بروح جديدة. في هذا السياق، فإن بيان الحزب الذي دعا الى التعبئة وهدد بالانتقام من المصالح التركية بعد القبض على الزعيم أوجلان لا يمثل بالضرورة الخيار الوحيد المنتظر من الحزب، ولفترة قصيرة مقبلة، فالمرجح بقوة أن تحدث عمليات انتقامية، وأن تواجه المصالح التركية انفجارات هنا وهناك. أما على المدى البعيد فالوضع حتماً داخل الحزب سيكون مختلفا. * كاتب مصري