يوجد معسكران متضاربان في الرهان على انتهاء ازمة "لوكربي" بمثول المواطنين الليبيين المشتبه بتورطهما في تفجير طائرة "بان اميركان" امام المحكمة في هولندا بموجب القضاء الاسكتلندي. معسكر يراهن على ان ليبيا ستتملص وتطالب وتتلاعب لأنها اصلاً عازمة على منع مثول المشتبه بهما امام المحكمة، لأن محاكمتهما محاكمة للنظام. ومعسكر يراهن على براغماتية ليبيا واثباتها جدارة ديبلوماسية وسياسية خارقة في اغلاقها ملف "لوكربي" وخلاصها من العقوبات. رئيس جنوب افريقيا نلسون مانديلا ينتمي الى المعسكر الواثق بالنيات الليبية وبالعقيد معمر القذافي. زيارته اليوم ليبيا للقاء القذافي تبعث الى واشنطن ولندن رداً على الرسالة الحمقاء والفجة التي سجلت الشكر والاستغناء عن المساعي الحميدة التي قامت وتقوم بها جنوب افريقيا والمملكة العربية السعودية. حديث الولاياتالمتحدةوبريطانيا عن مهلة زمنية محددة في 30 يوماً لاتخاذ ليبيا القرار النهائي، تنتهي حوالى 25 الشهر الجاري، استفز ليبيا الى تعمد تأجيل اي تحرك الى ما بعد ذلك الموعد. بريطانيا ادركت خطأ تحديد المهلة وبدأت تتملص من المواعيد المصطنعة وتفريغها من اي "تهديد" ومجلس الامن كان اساساً شديد الحذر فتجنب التصديق على المهلة الزمنية واكتفى بالتمني باغلاق ملف لوكربي في اقرب وقت ممكن. الخطأ الآخر الذي ارتكبته الديبلوماسية الاميركية والبريطانية تمثل في ابلاغ المعنيين الاستغناء عن المساعي الحميدة التي كان يقوم بها مبعوث مانديلا، جاكس غرويل، ومبعوث المملكة العربية السعودية الامير بندر بن سلطان، بحجة ضرورة تقنين كل الجهود في شخص الامين العام للامم المتحدة كوفي انان، فقد رافقت ذلك القرار تسريبات مضرة تشكك في نزاهة القادة الافارقة الذين خرقوا الحظر كما الوسطاء. واثار هذا التصرف غضباً عارماً في عدة اوساط كما اثار الشكوك بالمقاصد الاميركية والبريطانية وشدد في الوقت ذاته العزم على احباط الرغبة في تنحية المساعي الحميدة. خلفية القرار الاميركي - البريطاني بالاستغناء عن المساعي الحميدة قد تنطوي على سوء نية اذا صدق حقاً انهما تراجعتا عن التعهد بپ"رفع" العقوبات بعد تقديم الامين العام تقريراً في غضون 90 يوماً من وصول المشتبه بهما الى هولندا، مقابل موافقة ليبيا على قضاء العقوبة - في حال الادانة - في سجن اسكتلندي باشراف الاممالمتحدة. هذا هو المفهوم الليبي للتفاهم الذي حصل والذي نقله الوسيطان. اما المفهوم الاميركي والبريطاني فانه مخالف تماماً وينص على التزام "تعليق" العقوبات لدى وصول المشتبه بهما الى هولندا، من دون الالتزام المسبق "برفع" العقوبات، مع الاشارة الى ان "التعليق" يعني عملياً وواقعياً ازالة العقوبات، علماً بأن اعادة فرضها عملية شبه مستحيلة بسبب ما تطلبه من قرار جديد لمجلس الامن يستلزم دعم 9 اصوات وعدم استخدام روسيا او الصين "الفيتو" عليه. مفهوم الوسيطين للتفاهم مهم وقد يكون السبب وراء الرغبة في الاستغناء عنهما. فاما انهما موافقان على المفهوم الليبي، وهذا لم يعجب الطرفين الاميركي والبريطاني. او انهما اساءا الفهم مما زاد الامور تعقيداً. او ان واشنطن ولندن، بكل بساطة وحسن نية، وجدتا في تعدد القنوات خطر اساءة الفهم والتفسير، واعتبرتا الامين العام القناة الرسمية لتسجيل المواقف والاجراءات والتفاهمات في هذا المنعطف بعدما حقق الوسيطان كل ما في امكانهما تحقيقه. يوافق بعض المعنيين في الامانة العامة على ضرورة حصر الامور في شخص كوفي أنان ويخشى ان يكون تعدد "الطباخين" وصفة لحرق الطبخة، عمداً او سهواً. لكن البعض في الاوساط الديبلوماسية يشير الى القيود السياسية التي تواكب اعمال الامين العام، ويجد حاجة بل ضرورة لمساعدة امثال نلسون مانديلا لكوفي انان. فصحيح ان المسائل القانونية والاجرائية، بتفاصيلها، قد تم الاتفاق عليها بين الامانة العامة وليبيا، لكن "رفع" العقوبات مسألة سياسية، اميركية تحديداً، علماً بان ليبيا تبدو مرتاحة الى التطمينات التي تلقتها من بريطانيا ثنائياً في هذا الصدد. واعراب ليبيا عن ثقتها ببريطانيا ملفت للنظر. فاما ان طرابلس توصلت فعلاً الى اقتناع بأن تحولاً جذرياً طرأ على السياسة البريطانية في عهد طوني بلير، وضمنها اعادة النظر في اداة العقوبات وكيفية توظيفها. او ان الشكوك بنوايا بريطانيا مستمرة ولذلك تعتمد طرابلس اسلوب الاطراء بلندن والتشكيك بواشنطن ضمن تكتيك "فصل العدوين" في وجه ما تعتبره "توزيع الادوار" الاميركية - البريطانية. تحدث العقيد معمر القذافي، في خطابه في 2 الشهر الجاري عن تاريخ الشكوك بالسياسة البريطانية وقال "الانكليز يلعبون بالالفاظ". وزاد "نحن لسنا خائفين من القضاء البريطاني، من المحكمة الاسكتلندية، خائفون من السياسة البريطانية". تحدث عن امثلة التلاعب بالالفاظ ومنها القرار 242 حيث الانسحاب من "ارض" عربية محتلة، وليس من "الاراضي"، وعبر عن الخوف من "مطبات كثيرة". لكن القذافي ركز تكراراً، في الخطاب الذي وجهه الى اللجان الشعبية، على "نزاهة المحكمة الاسكتلندية" بل قال ان "محكمة هولندية لا نطمئن الى نزاهتها ابداً مثلما نطمئن الى نزاهة المحكمة الاسكتلندية"… فمن الناحية القضائية ومن الناحية القانونية انها نزيهة. وليس في ذلك شك". بدا كأنه يحاول حض اللجان الشعبية على اتخاذ القرار بمثول المشتبه بهما امام المحكمة بموجب القضاء الاسكتلندي او كأنه يمهد الارضية لاعلان القرار، شرط الحصول على الضمانات. قال ان "الشعب الليبي لا يستطيع ان يتفهم شفاهة الاشياء الشفوية. انه يريد شيئاً لدى الخارجية الليبية، قراراً من مجلس الامن، رسالة من كوفي انان تكون ملزمة لليبيا وللاطراف الاخرى، ليس بالهاتف او ما شابه ذلك، او النية الحسنة، مع ان الرئيس مانديلا، الحقيقة، يقول لي: بقرار او بدون قرار، بأي شيء، اتركها لي… انا ضامن كذا وضامن كذا. وانا، في الحقيقة، كلمة مانديلا عندي اقوى من قرار مجلس الامن، واقوى من اي تعهدات. وهذا، الحقيقة، يكفي. وعندي رسالة تحريرية موقعة من الامير عبدالله فيها الضمانات والتعهدات". وتابع: "عندما يتدخل شخص مثل مانديلا، او تتدخل دولة مثل السعودية، مهما كانت النتيجة، وافرض حتى نحن في النهاية لو ندمنا، ولكن يجب ان نحترم الكلمة التي اعطاها هؤلاء الناس". وفي لقائه مع الكتاب والصحافيين في القاهرة تحدث القذافي عن العلاقة بين نلسون مانديلا وبيل كلنتون وطوني بلير "وهم اصدقاء"، وقال: "هناك اقتراحات قد تؤدي الى الحل واصبحت مقبولة عند الطرفين، عند ليبيا والجبهة الغربية". وزاد "ما زلنا حتى الآن ننتظر الصيغة النهائية لهذه الجهود. وهذا يجب ان يكون واضحاً". ما يحمله مانديلا اليوم الى القذافي قد يكون بمثابة الصيغة النهائية للجهود علماً بأن كوفي انان اعلن انه اعطى ليبيا "كل التطمينات والتفسيرات اللازمة"، وانه في انتظار الرد "وهم في حاجة الى فترة زمنية معقولة لاتخاذ القرارات". والناطق باسم الامين العام قال ان مانديلا بلقائه القذافي "يتصرف في اطار التنسيق مع الامين العام ودعماً لجهوده المستمرة". فاذا كان في بال ليبيا وضع مصلحتها الوطنية المتمثلة بالخلاص من العقوبات فوق نشوة مقاومة "الغطرسة" الاميركية - البريطانية المتمثلة في المواعيد المصطنعة، ان مناسبة زيارة "الأب" الافريقي المسّن فرصة لاثمار الجهود الطيبة التي بذلها نلسون مانديلا نحو ليبيا. فهذا رجل اراد رد الجميل معترفاً بفضل الدعم الليبي له ولجنوب افريقيا قبل ان يصبح رئيساً، وهو عرّاب الجرأة الافريقية على تحدي الباطل وتغليب العدالة. ولن يتقدم الى القذافي بأية صيغة اذا رأى فيها مطبات. فاذا حمل معه تعهداً اميركياً بحسن النية، لا داعي للاصرار على الاحراج العلني لواشنطن حتى وان كان مغرياً. فالى جانب المنافع العديدة المترتبة على مثول عبدالباسط المقراحي والامين خليفة فحيمة امام القضاء الاسكتلندي في المحكمة في لاهاي، ان "تعليق" العقوبات يسمح بتطبيق مبدأ "خذ وطالب"، ليس فقط لجهة "رفع" العقوبات الدولية نهائياً. وانما ايضاً لجهة تأثير واثر تعليق العقوبات الدولية على مصير العقوبات الثنائية التي تفرضها القوانين الاميركية على ليبيا. فالشركات الاميركية الراغبة في العودة الى ليبيا في حاجة الى قاعدة متينة للدفع بالكونغرس وبالادارة الاميركية نحو تعديل في سياسة العقوبات الثنائية التي تحرم الشركات من فرص مهمة لها في ليبيا. مثول المشتبه بهما امام العدالة يشكل تلك القاعدة المرغوبة، كاجراء بحد ذاته، وبماي ترتب عليه من تعليق العقوبات الدولية. فكما في المصلحة الاميركية استئناف تطبيع العلاقات التجارية والاقتصادية، كذلك في مصلحة ليبيا، سيما وان ليبيا اعتمدت على التكنولوجيا والخبرة الاميركية خصوصاً في مجال القطاع النفطي. وليبيا في اشد الحاجة الآن لتحسين اداء الصناعات النفطية والقطاعات الزراعية لتعزيز القدرة الاقتصادية ومعالجة ما سببته العقوبات واسعار النفط من تراجع في المدخول منذ اوائل التسعينات. في اوائل التسعينات، قررت ليبيا ان الورقة الرابحة الوحيدة لديها حينذاك كانت عامل الوقت وكيفية توظيفه لصالحها بأقل قدر من الاضرار، بحيث، اولاً، لا تحدث مواجهة عسكرية تتضاعف منها الاضرار، وثانياً، لا يتم تسليم المشتبه بهما بالشروط الواردة حينذاك وبلا مقابل. اليوم، وبعد زوال تلك الاجواء، ان الورقة الثمينة في يد ليبيا ليست في الاحتفاظ بالمشتبه بتورطهما في لوكربي، وانما هي في وصولهما الى لاهاي للمحاكمة. منطقياً، ولدى القراءة الدقيقة للاستراتيجية الليبية، بناحيتي الاجراءات غير العلنية والتصريحات، يبدو رهان المعسكر الواثق باغلاق ملف لوكربي رابحاً. الا ان المعسكر المراهن على استحالة اتخاذ ليبيا قرار مثول المشتبه بهما امام العدالة يبقى المنتصر الى حين الاجراءات الملموسة. فبها فقط يحسم الرهان، وبها فقط تتحرر الاجيال الليبية من قبضة العزل في زمن التداخل والاختلاط.