من راقب العيش المشترك لن يموت همّاً. هذا ما يمكن ان نستنتجه من العدد الثاني من مجلة "المرقب"، الصادرة عن جامعة البلمند في شمال لبنان، بمبادرة نوعية لافتة على الصعيدين الاكاديمي والفكري. حيث ان ميزة هذه المجلة غير الدورية انها تُعنى بقضايا العيش المشترك بشكل أساسي، وهذا شأن يتطلبه لبنان ما بعد الحرب، كما تتطلبه البوسنة وكوسوفو وجميع البلدان الصغيرة التي غالباً ما تقوم على تنوّع ثقافي وديني يشكّل قاعدة الوفاق الوطني فيها، أو قاعدة ايديولوجية التخاصم النضالي التي تُبنى عليها الحروب الاهلية والداخلية. فالعيش المشترك موضوع اساسي في لبنان ويستحق مجلة خاصة به، تُعنى بشؤونه وتصبّ عليه ثمار تفكيرها. وكنا في الواقع ننتظر مبادرة من هذا القبيل من الجامعة اللبنانية، الجامعة الوطنية مبدئياً في البلاد. إلا أنها أتت من جامعة خاصة اتهمها في السابق احد الوزراء الميليشياويين، في الحكومة الحريرية السابقة، بأنها طائفية البنيان. صحيح ان الجامعة اللبنانية تعتبر ان نسيجها الاجتماعي يتماشى مع مبدأ العيش المشترك، الا ان هذا لا يكفي لأن المطلوب، في اطار اعادة بناء الدولة بعد الحرب التي دامت زهاء عقدين من الزمن، هو التفكير في العيش المشترك بغية تثمير قواعده وبلورة مغازيه الاجتماعية والسياسية والثقافية. وقد جاءت هذه المبادرة من جامعة خاصة أدركت هذا البعد التأسيسي للعيش المشترك لموضوع ينبغي ان يخرج من دائرة "غير المفكَّر فيه" وان يدخل دائرة "المفكَّر فيه"، بالمعنى الذي يعطيه المفكر الجزائري محمد أركون لهذين المصطلحين. والمشرف على المجلة أكاديمي رصين ومعروف باسهاماته العميقة في هذا المجال، منذ عقد ونصف من الزمن على الاقل، الزميل احمد بيضون. يتوقف، في هذا العدد، عند مسألة الزواج المدني والعاصفة التي أثارها طرحه، منذ سنة ونيف، في لبنان. فيرى بيضون "ان عصبة الخيار المدني في الأحوال الشخصية ضعاف. ولا يتأتى ضعفهم، في لبنان، من قلّة عديدهم، على ما زُعم، فهم، علّة ما أظهرت الاستطلاعات وأشار احد المساجلين في الموضوع، أوفر عديداً من طائفتين كبيرتين. وإنما يتأتى هذا الضعف من كونهم افراداً وثللاً موزعين في طول المجتمع اللبناني وعرضه، لا تمثّلهم، في مطلبهم هذا، مؤسسات يعتدّ بها - تقابل المؤسسات الدينية - ولا يؤولون الى قوة انتخابية مركزة، ولا تقول بقولهم - الا استثناء - احزاب سياسية، ولا يؤمل، بطبيعة الحال، ان تستنفر لنصرتهم عصبيات طائفية". فالمسألة برمتها، حينما طُرِحت، أخذت منحى صوّر انه مشروع فتنة جديدة في البلاد، فاستنفرت الاجهزة الدينية ووسائلها الاعلامية كافة ضد مشروع الزواج المدني الاختياري، فتمّ وأد المشروع وبارقة العلمانية التي كان قد فتحها في سماء البلاد. فاللجنة اللبنانية جنّة طائفية لا يدخلها سوى احدى الطوائف المعترف بها رسمياً في البلاد. اما مَن لا يشاطر هذا الخيار فمنبوذ معرفياً في اللوحة ولا وجود له سوى بشكل معكوس. مقاربة احمد بيضون لهذا الموضوع ذكية جداً، علاوة على ان الاسلوب الذي يسكب فيه افكاره الفذّة شيق وبليغ. من المقالات المهمة ايضاً في هذا العدد، ملف اعدّه الزميل جورج نحاس، نائب رئيس جامعة البلمند، حول "التنشئة الدينية والتعايش في لبنان". ينطلق من مقاربته من السؤال الآتي: "هل التعليم الديني الالزامي في المدارس يخدم قضية التعايش؟ هل يعيق اعتراف الدستور اللبناني بوجود الطوائف وحقوقها عملية اضطلاع المدارس بدورها في التنشئة على المواطنة الواحدة؟ هل ثمة تناقض بين الرؤية الدستورية لحرية التعليم وتنظيم ممكن للتنشئة الدينية على الصعيد الوطني؟". يرى الكاتب ان الحل يقوم على اعداد برامج تنشئة دينية "موحّدة وموحِّدة"، تطابقاً مع سيرورة المناهج التربوية الجديدة المعتمدة في لبنان حالياً، تحت اشراف المركز التربوي للبحوث والانماء. فيقترح نحاس ان يصار الى اعداد كتب خاصة لهذه الغاية تركّز، في المحلة الابتدائية الاولى، على القواسم المشتركة التي تجمع الاديان الموجودة في لبنان الايمان بالله الواحد، الايمان بالله الخالق، الايمان بالانسان المخلوق على صورة الله ومثاله بمفهوم مسيحي، يقابله في الاسلام "الانسان خليفة الله في الارض"، الممارسة العبادية، الاعلان الالهي للأديان. يقترح الباحث ان تتعمق هذه المسائل في المرحلة المتوسطة وان يصار، في المرحلة الثانوية، الى اطلاع الطلاب على تأثير المسيحية والاسلام في الحضارات العالمية. وجهات النظر التي تتضمنها هذه المجلة جريئة ومسنودة الى حجج موضوعية ومقنعة. وهذا ما يجعل منها، عن حق، احدى ابرز المجلات الاكاديمية اللبنانية.