هل أصبح من حق الشعب الألماني ان يصبح شعباً "عادياً"؟ وهل اصحت "الظروف" ملائمة لاعادة نفض الذاكرة الجماعية من وصمة العار النازي؟ وهل بات الألمان شعباً بالغاً في امكانه التغلب على "عقدة الذنب" التاريخية إزاء اليهود؟ وهل صار جائزاً ركن "المحرقة" على احد "رفوف" السير التارخية ونزع الموقع المحوري عنها في حاضر وماضي الأمة الألمانية؟ اسئلة كثيرة أثارها الجدال الدائر في المانيا حول موقع "المحرقة" في الذاكرة الالمانية لا سيما في سياق تلك الرياح الدافعة باتجاه ازاحة كابوس الماضي عن حاضر البلاد ومستقبلها.، واذا كان من زوبعة في إثارة هذا الأمر فليس لكونه جديداً على بساط البحث ودعاة اليمين المتطرف سباقون في هذا المضمار بل لأن واحداً من اكبر رجالات الأدب الألماني جهر في كلام لطالما يهمسه المجتمع في الخفاء. يعتبر مارتين فالزر الى جانب غونتر غراس وجهاً لامعاً من وجوه الأدب الألماني لما بعد الحرب العالمية الثانية. فالرجل الذي ولد عام 1927 كتب في الرواية والمسرح على نحو جعل منه الكاتب الأكثر انتشاراً في المانيا، لينتقل صداه بعد ذلك الى العالم من خلال ما ترجم له الى عديد من اللغات. والرجل ابتدأ سيرته السياسية قريباً من الاشتراكية الديموقراطية منتقلاً بعد ذلك الى موقع قريب من الحزب الشيوعي الألماني كرد فعل على الحملة الاميركية في فيتنام. بيد ان فالزر الذي رفض خضوع الحزب الشيوعي لارادة موسكو او برلينالشرقية، حاول ان ينفخ في تيار فكري يجمع ما بين الشيوعية والقومية، غير ان محاولته سرعان ما باءت بالفشل بسبب ما يصفه "بسوء المعاملة التي يلقاها في المانيا كل من يفكر بشكل مختلف"، فانصرف يدافع عن ألمانيته بلغة مرهفة انتجت روائع في الرواية والمسرح، تكشف مضامينها عن ذلك الوجع ما بين الاجيال، ما بين الرجال والنساء، ما بين الرؤساء والمرؤوسين. في خريف العام الماضي وفي احتفال منحه احدى الجوائز الأدبية أدلى فالزر بدلوه واشتعل النقاش. فقد استنكر تنصيب الاعلام لنفسه حارساً مقنناً للأخلاق على المستوى المدني والعام، مستهجناًَ النمط "الاستعمالي" لأوشفيتز لأغراض السجال العام، لافتاً الى ان "العرض المستمر لواقعة العار" عبر وسائل الاعلام في بلده قاده إلى اغماض النظر حين تمرير مشاهد من المعسكرات النازية على شاشة التلفزيون. خطاب فالزر لا يتضمن إنكاراً ضمنياً لوجود "المحرقة"، بل سأما من هذا الشعور المرضي السرمدي بأنه "متهم". ويشير فالزر بأنه "لا يمكن لأي شخص عاقل انكار اوشفيتز …، لكن عندما يعرض عليّ هذا الماضي كل يوم عبر الاعلام ألاحظ ان شيئا ما في داخلي ينتفض مدافعاً ضد هذا الاستعراض المستمر لعارنا". واذا كانت خطابات "المراجعة" في مسألة المحرقة سرعان ما تجد من يفرغها من مضمونها ويصب عليها سخطه، بيد ان الأمر هذه المرة يمتلك أبعاداً مختلفة في القشرة والمضمون. فمارتن فالزر لا ينتمي ولم ينتم يوماً الى تيارات توستالجية تحن لزمن نازي غابر، بل ان مواقف الرجل في السياسة والأدب تلتصق بهرم القيم المؤسسة للدولة الألمانية الحديثة. اضافة الى ان ما رشح من خطابه لا ينال من يقينية المحرقة وهول واقعتها، بل يضغط على جرح العار المفتوح، والذي لا يبدو ان التئاماً قد يطرأ على كينونته في ذلك السياق الذي حكم الولادة الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية. واللافت في أمر خطاب فالزر هو تسابق اقلام وأبواق اخرى غالباً ما توصف بالاعتدال والرصانة لتنقل الماء الى طاحونة الرجل. فكلاوس فون دوهناني العمدة الاشتراكي السابق لمدينة هامبورغ وهو نجل مقاوم أعدم عام 1943 هنأ فالزر على "فتحه نقاشاً ضرورياً ملحاً لإعادة تجديد الذاكرة الجماعية". ومن دون اغفال لهول الجريمة النازية، استنكر فون دوهناني هذا "العبث بالذاكرة الألمانية خدمة لمصالح اخرى على حساب ألمانيا". حتى انه ذهب الى ابعد من ذلك حين اضاف ان "على المواطنين اليهود ان يتساءلوا عما اذا كان سلوكهم كان سيكون اكثر شجاعة من باقي الألمان لو انه بعد عام 1933 "اقتصرت" معسكرات الإبادة على الشاذين جنسياً والمعاقين او جماعات الغجر". في ظل هذه الهمرجة السياسية التي انضمت اليها شخصيات في عالم السياسة والفكر والصحافة، وحده ايغناتس بوبيس رئيس الجالية اليهودية الألمانية انبرى للتعبير عن خلافه واعتراضه على ما قدمه فالزر ومن التحق بركبه، واصفاً إياه بأنه "مشعل حرائق"، متهماً خطابه بعكس معاداة كامنة للسامية تحمل زاداً الى اطروحات اليمين المتطرف، مشيراً الى انه ليس بالامكان اختيار الحقب الجميلة في التاريخ والتخلص من الحقب الاخرى، محذراً من ان "من يرفض التوقف امام هذا القسم من التاريخ او يتجاهله عليه ان لا يفاجأ اذا ما أعاد التاريخ يوماً نفسه". وبغض النظر عن تفاصيل الحدث الذي يصفه اولريتش هربرت واحد من أهم المؤرخين المعاصرين في ألمانيا بأنه سجال بين عحجوزين فالزر وبوبيس، في حين تصفه جريدة Frankfurter Allegemein Zeitung المحافظة بأنه نقاش مؤسس لجمهورية برلين الجديدة، فإن الجهر بالتعبير ونزع صفة التحريم عن هذه المسألة يشي بتحول داخل المجتمع الألماني ونخبته الثقافية والسياسية، بحيث ان المارد الالماني الذي لطالما قضّ مضجع الأوروبيين بلغ حداً من النضج يخوّله دون وجل مراجعة الثابت والسائد في السيرورة الألمانية بغية وضع حد لآلة "التذئيب" البيولوجي على أمل ان يستوي مستقبل الألمان على وضع عادي لا يشوبه استثناء. ولعل ما سال من حبر حول هذا الحدث يؤسس لإعادة تناول مسألة المحرقة وفق قواعد مختلفة. فمقابل العذاب الموروث لدى ابناء ضحايا الهولوكوست تنامى عذاب آخر تمثل بالعار الذي يحمله ابناء الجلادين. فإذا ما ألصقت النازية الدونية باليهودي حال ولادته، أي بسبب عامل بيولوجي صرف، فان العار التصق بالألماني حال ولادته، اي بسبب عامل بيولوجي صرف. صحيح ان عذابات ابناء الضحايا لا يمكن ان تقارن بعذابات ابناء الجلادين، غير ان الإمعان في تقديس الجرم وتثبيت وقائعه وتجذير بعده الاطلاقي، اهمل ان نصف قرن على مضي الواقعة معطوفاً على كم من التحولات السياسية والتاريخية، لا بد ان ينفخ في رياح النسبوية والواقعية بحيث يسقط الهولوكوست من بعده الميثولوجي الى واقع فعلي محسوس كجريمة كبرى يعاقب عليها بالزمان والمكان. ارتأى فلاسفة المحرقة انتاج حقيقة واحدة لا هامش للمناورة داخلها ولا تجوز فيها المراجعة او اعادة النظر. وضرب رجال السياسة والقانون عرض الحائط بالأصول المعرفية والقواعد العلمية التي تتمحور حول الشك والنقد ورفض الثابت والمسقط والموروث، فحرّمت الدول الغربية الديموقراطية بديكتاتورية مقيتة حرية البحث في هذا المضمار بحيث ضربت المراجعة الصالحة بجريرة تلك الطالحة المغرضة، فخرج الأمر من قانون العقل الى قلاع الأيديولوجيا، حتى اذا ما سقطت الأيديولوجيات تساقطت الواحدة تلو الاخرى. ما أثاره مارتن فالزر في المانيا ليس غريباً عن عهد آخر دخلته المانيا. فالمستشار الالماني الجديد غيرهارد شرودر سائر في تقديم المانيا كبلد ناضج واثق لا يكتوي بعقد تاريخية. وهو يشير الى انه "علينا ان نتذكر التاريخ من دون ان يثقل ظهورنا كل يوم". على ان ما أثاره ينضم الى اصوات اخرى تبرمت من المشروع الضخم لبناء صرح تذكاري لپ"الهولوكوست" وسط برلين على نحو يوحي ان جمهورية برلين تتأسس على ميثولوجيا المحرقة. يبقى ان عدداً من المراقبين تساءل عن الجهات التي يقصدها فالزر حين استنكر النمط "الاستعمالي" لأوشفيتز "من اجل اغراض معاصرة". هل هم محامو نيويورك الذين يطالبون "الدوتش بنك" بالأرباح الناتجة عن مصادرة املاك اليهود… أم اسرائيل؟ انها مجرد تساؤلات تدشن لعهد آخر في زمن الاسئلة. * كاتب لبناني مقيم في باريس.