لم يختر جواد الأسدي "الاسطبل" حيّزاً للّقاء الذي حصل بين الآنسة جولي وخادمها جان إلا ليرسّخ أولاً الطابع السفليّ وربما الغريزي للعلاقة المتوترة والمضطربة التي جمعت وفرّقت بينهما ثمّ ليعتمد ثانياً صخب الخيل رمزاً للحلم والخيبة اللذين تخبط الخادم فيهما: الحلم بالهرب والخروج من القصر بحثاً عن الحريّة والخيبة التي واجهته حين عرف أنّ حلمه لن يتحقّق وأن قدره هو أن يظلّ خادماً أو عبداً في معنى ما. وارتفاع الصخب الذي تحدثه الخيول بدا في أحيان كأنّه طالع من لا وعي الخادم الذي يواجه سيّدته ويحتال عليها ليوقعها في شراكه. فالخادم الذي وجد في ذلك الصخب إشارة انطلاقة نحو الحريّة الشخصية طبعاً وجد فيه أيضاً إشارة سقوطه في العبودية التي حكم بها أبداً. فحين يرتفع في الختام صهيل الخيل يستيقظ الخادم حان من أوهامه الحقيقية مدركاً أنّ الكونت عاد من الحفلة وأنّه عاد هو بدوره الى واقعه التعيس. لم يلتزم جواد الأسدي نصّ الكاتب السويدي أوغست سترندبرغ حرفياً فحذف بعض الحوارات وغيّب شخصية الخادمة وحرّف المشهد الختاميّ بعض التحريف جاعلاً الآنسة جولي ترتمي أرضاً عوض أن تهرب الى موتها القسريّ المحتمل وغير المحتمل كما في النصّ الأصليّ. وإن نجح الأسدي في حذف بعض الحوارات كي يُبرز الحركة والبعد المشهدي كركيزتين للعرض فأنّ تغييب الخادمة كريستين لم يبدُ ضرورياً إذ كان في إمكان هذه الشخصية الثانوية جداً أن تكسر العلاقة العنيفة كما في النص أيضاً من غير أن تؤثر على تناميها. بل ان حضورها كان ليساهم في إبراز اللعبة الجهنمية التي حاكها الخادم والآنسة كلّ على حدة وفي التذكير بأن ما يحصل داخل "الأسطبل" يختلف تماماً عمّا يحصل في الخارج. أما الخاتمة التي شاءها الأسدي مختلفة عن خاتمة سترندبرغ فبدت أقلّ التباساً منها وربما أقلّ عمقاً: حين يرتفع صخب الخيول مؤذناً بعودة الكونت يضطرب الخادم جان بشدّة إذ يدرك أن حلمه انتهى عبثاً في حين تدرك الآنسة جولي أن حياتها انتهت وليس حلمها فقط. في نصّ الأسدي المقتبس ترتمي جولي أرضاً بعد لحظات من الصراع العنيف على العصفور الذي أصرّت على اصطحابه معها في هربهما الذي سعى إليه جان كي يتخلّص من عبوديته بعيداً عن القصر. أما في نصّ سترندبرغ فهي بعد تلك اللحظات العنيفة، تخرج شبه مجنونة حاملة الموسى التي ذبح بها جان العصفور وكأنّها ذاهبة الى موتها انتحاراً. ولا يؤكّد سترندبرغ انتحار جولي ولا ينفيه في الحين عينه. لكنّها إن لم تنتحر فعلاً فهي انتحرت مجازاً حتماً. ولعلّ تجاهل الأسدي لتحريض جولي كما في النص خادمها المنفعل على قتلها جعل العلاقة المضطربة بينهما تفقد بعضاً من قدريّتها المشؤومة. فالآنسة التي هي ضحية الضحايا ضحية عائلتها وماضيها... شاءت أن تموت على يد جان خادمها. لكنّ جان الذي استبدّ بها واستغلّ ضعفها وجاهر بانتصاره عليها ظلّ جباناً رغم ذبحه العصفور وهو رمز عالم جولي البريء. ينطلق جواد الأسدي من العنف الداخلي الذي ارتكز اليه سترندبرغ ليبني العلاقة غير السويّة بين الآنسة وخادمها. غير انّه يفجّره مطلقاً عبره غرائز الشخصيتين اللتين تتواجهان كما لو أن الواحد منهما في مرآة الآخر. يصبح العنف لدى الأسدي داخلياً وخارجياً كالعادة بل إن العنف الداخليّ لا يتبلور إلا عبر اندفاعه الى الخارج. وهكذا يمسي الأسطبل ساحة لمعركة متفاوتة المراحل والنتائج: الخادم - الضحية يلعب دور السيّد - الجزار والسيّدة المتسلّطة ظاهراً تلعب دور الضحية من غير أن تنسى أنها ضحية. وان عرف الممثل القدير غسان مسعود كيف يعيش عنفه الداخلي والخارجي معاً وكيف يوجهه لصالح الشخصية ونموّها المعاكس أو السلبي فأنّ الممثلة لما قاسم ظلّت على عتبة شخصيتها الصعبة والمركّبة في عنفها النقيّ وصفائها المعتكر. وبدت حركتها العنيفة والمنفعلة باردة ومصطنعة وكأنّها أُسقطت عليها من خارج عوض أن تخرج من داخلها. والتفاوت بين أداء غسان مسعود المتين والصلب والمرن وأداء لما قاسم البارد والمصطنع ساهم في خلق بعض الخلل في بناء العلاقة بين الشخصيتين. فبدا جان أعمق من جولي وأشدّ مأسوية وقرباً من الهاوية في حين غدت جولي فتاة بريئة فقط، بريئة وساذجة بعض السذاجة علماً أنّها عميقة عمق شخصية الخادم وربما أعمق. فالبراءة التي في وجهها يجب ألا تعني أنها ساذجة. ولم تكن دعوتها خادمها الى تقبيل قدمها في البداية مجرد حركة عفوية كما جسدتها لما قاسم بل كانت الشرارة السريّة التي ستشعل نار الصراع الدامي بينهما. لعلّ مواصفات لما قاسم "البريئة" أوقعت الشخصية نفسها في براءة ظاهرة وسطحية فيما براءتها الحقيقية هي داخلية، براءة الضحية التي تلجأ الى الشرّ لتنتقم من ماضيها. وهذا ما عجز المخرج عن تحاشيه في رسم ملامح جولي وفي تحرير الممثلة من سذاجة الأداء رغم سعيه المستميت الى تحريكها والى اذكاء نار الغريزة فيها والشهوة والانتقام... وربّما لم يُصب جواد الأسدي كثيراً في تأويله شخصية جولي كما لو أنها امرأة مناضلة ضدّ ظلم الرجل. ووضعه موقفها المتمرد في كونه "صرخة المرأة في وجه ظلم الرجل في مجتمع رجولي ذكوري ظالم" لا يفي الآنسة حقها ولا يمثل إلا جزءاً ضئيلاً من شخصيتها وحقيقتها. فالآنسة جولي ليست مناضلة "نسائية" أبداً مثلما أنّ جان ليس مناضلاً اجتماعياً كذلك وليست داعية من دعاة التحرّر النسائي. إنّها "آنسة" متمرّدة على ماضيها وأهلها وكرهها الظاهر للرجل ليس إلا كرهاً لما يمثل والدها من نموذج "ذكوري" سيء ورديء. إنها "كائن" ضعيف وقد وقعت ضحية الآخرين وضحية نفسها في وقت واحد. وكانت تكفيها تلك الليلة ليلة العيد لتختلي بخادمها وتنتقل من هامش الخطأ الذي ارتكبته الى هامش الموت أو الانتحار المفترضين. أمّا أن تكون ضحية نفسها فذلك يعني أنّها هي التي دفعت بنفسها، ووفق إرادتها، للوصول الى ما وصلت اليه، بعدما ارتكبت ما ارتكبته. وسرعان ما انهار عالمها وماضيها عندما ضحّت ببراءتها وبسذاجة واضحة كي تمنح نفسها للخادم جان في لحظات هياج وتناسً وضعف. انتقلت جولي من براءتها الأولى التي طالما واجهت بها العالم الى واقع آخر حافل بالبغض والتقزّز والعنف وهو واقع العلاقة التي جمعتها بخادمها. نصبت جولي فخاً لنفسها ووقعت فيه وأدركت كلّ الإدراك أنّها سقطت وأنّها فقدت كلّ شيء: البراءة والماضي والمستقبل... ولم يبقَ لديها ما يمكنها أن تثق أو تؤمن أو تتعلّق به. كبرياؤها كسيّدة لم تعد تجدي والحلم المشترك الذي تبادلته مع الخادم لم يتحقّق. وفي "مسرح" الخطأ كما في مسرح الجريمة دمّرت صورتها الوحيدة التي لا تستطيع أن تحيا من دونها. وهكذا يعتريها الخوف من واقعها المزري ومن حال اللاتوازن التي تتخبّط فيها ولا يبقى أمامها إلا أن تعاقب نفسها بالموت عقاباً "تكفيريّاً" في المعنى المسيحيّ. ولن تلجأ الى الموت لتهرب أو لتتخلّص من عذابها وإنّما لتوقف سقوطها وسقوط عالمها وسلالتها أيضاً. أمّا جان في المسرحية فلا يمكن قراءة شخصيّته إلا من خلال رؤية المخرج اليه أوّلاً ومن خلال أداء غسان مسعود المميّز ثانياً. وقد تمكّن الممثل السوري من تجسيد صورة متماسكة وتعبيرية لهذه الشخصية الصعبة والمعقدة ومنحها تلك التلاوين السرية والتفاصيل التي تؤلّف جزءاً رئيساً منها ومن ملامحها الخارجية وسلوكها الداخلي. والخادم جان ليس مناضلاً ملتزماً حقوق الطبقة المسحوقة التي ينتمي اليها أساساً على رغم اشارة المخرج الى ما سمّاه "العمى الطبقي" الذي يتخبّط فيه. إنّه خادم يحلم في تخطّي طبقته بل خادم أضحى ينتمي منذ اللحظة الأولى الى طبقتين: طبقته كخادم وقد انفصل عنها محتقراً إيّاها وطبقة الكونت والآنسة جولي التي يجاهد للوصول اليها. إنّه كما يقول عنه سترندبرغ نفسه "مؤسس سلالة". ويملك قدرة على التكيّف أوصلته الى ما وصل اليه. فهو عرف كيف يفيد من ضعف جولي ليشجعها على أن تمنحه نفسها. وكان هو يدرك سرّاً مثلما تدرك هي أيضاً أنّ الطبقة التي يجهد في الانتماء اليها تملك وراء قناعها الباهر وجهاً بشعاً وقاتماً ووراء "مظاهرها" الخادعة عيوباً هي عيوب الطبقة الفقيرة نفسها. وعوض أن يستسلم جان لحبّه لها أو لحبّها له يستخلص من ضعفها بعض القوّة فيعبّر عن حبّه بقساوة وعنف هما من طبيعته كخادم أو عبد. ولم يمكنه إلاّ أن يكون عنيفاً في لحظات المواجهة تلك تماماً كما كانت هي عنيفة في لحظات سقوطها المتعاقب وخيباتها المتواترة. ومثلما اعتاد أن يرتجف أمام "معلّمه"، لم يستطع في الختام إلا ان يرتجف حين سمع صهيل الخيول أيحين عودة "معلّمه". فهو يعلم كلّ العلم أنّه "عبد" وسيظلّ عبداً ويستحيل عليه أن يتحرّر من "غرائزه" كعبد غرائز العبودية. وهنا تتبدّى نزعة سترندبرغ الى مقولة داروين عن "بقاء" النوع الأقوى. والخادم جان هو مقتنع في سره بما هو عليه وليس حلمه في أن يصبح سيّداً ويقتني فندقاً بعيداً إلا ضرباً من الوهم. لكنه عرف كيف يلعب لعبته الشريرة والخبيثة وكيف يسلك السبيل ليصل الى غايته دافعاً جولي الى الانتحار ومدمراً حاضرها وماضيها ومشرّعاً أمامها هاويتها الخاصّة. وبعدما دمّر سيّدته وحطّمها وأهانها وفضح بعض إسرارها دمر حلمه المستحيل ووقع مرّة أخيرة في هوّة عبوديّته وذلّه القديم اللذين عجز عن التحرّر منهما حتى خلال تلك الليلة المشؤومة. وإن نجح غسان مسعود في صوغ شخصية جان مضفياً عليها أحاسيسه والتحولات الداخلية التي عاشها وموظفاً صوته وجسده وصمته وأعصابه فهو بدا كأنّه يمثل وحده نظراً الى التفاوت بينه وبين لما قاسم. ومثل هذا الكلام لا يعني أنّ لما قاسم ليست ممثلة جيّدة لكنها بدت غريبة عن شخصية جولي غربة نفسية ووجودية. فالشخصية الصعبة والمعقدة بدورها تفترض حضوراً آخر وجسداً آخر وأداء داخلياً وتوتراً داخلياً... وقد جهد الأسدي في نسج العلاقة بين الخادم والآنسة ونجح في التقاط خيوطها مؤّولاً إياها على طريقته وبحسب رؤيته الفلسفية الخاصّة. والأسدي ليس غريباً أصلاً عن جوّ أوغست سترندبرغ ولا عن نزعته التشاؤمية. والقلق الذي يحفل به عالمه هو قلق وجوديّ تعرفه معظم الأعمال المسرحية التي عمل عليها أو اقتبسها من جان جينه الى تشيخوف فإلى جورج بوخنر وسترندبرغ. وبات الأسدي يملك عالماً خاصاً وأبجدية خاصة سرعان ما يدركهما جمهوره. وليس من المستغرب أن يذكر "الأسطبل" هنا ب"عنبر" تشيخوف و"غرفة" الخادمتين مثلاً على رغم الاختلاف بين الأمكنة الثلاثة. وكذلك صهيل الخيل بصفير القطار. فالجوّ المكفهرّ والقاتم والقاسي هو نفسه وكذلك "الطقس" الذي يتخلل الجو وهو طقس نفسيّ عنيف داخلي وخارجيّ، مدمِّر ومدمَّر. أمّا "الباب" الذي توسّط "الأسطبل" فهو كالعادة الصلة الوحيد بالعالم الخارجيّ بل المنفذ الذي يأتي منه ضوء ما. وبدا الباب أشبه بالمنصّة التي تمثل العالم الآخر الذي جاءت منه الشخصيات والذي سترجع اليه: باب الجنون الذي وقع جان فيه وباب النهاية المأسوية التي كان من المتوقع أن تنتهي جولي فيها. وفي عالم جواد الأسدي تتشابه الشخصيات حتى وإن كانت مختلفة وتتشابه المواقف وإن كانت متناقضة وتتشابه الوجوه عبر تلك القسوة التي ينتهجها الإنسان ليدمّر نفسه ويدمّر سواه. عالم من ضحايا وجزارين، ضحايا يؤدّون أدوار الجزارين وجزّارون يؤدّون أدوار الضحايا في متاهة ليست هي إلا الحياة نفسها وقد استحالت موتاً متواصلاً. و"الأسطبل" الذي صمّمه غازي قهوجي وجعله فسحة شبه مشرعة الأخشاب على الجانبين للعلاقة الحميمة والمتوترة والعنيفة بين الخادم والآنسة كان المكان "السفلي" بامتياز. وفيه عاش جان غريزته كخادم يسعى الى التحرّر من عبوديته. وفيه أيضاً عاشت جولي غريزتها كسيّدة تكره ماضيها وتخونه كلّ الخيانة. وعندما راح جان يشمت بها ويذلّها ويهينها لم ينسَ أن يذكّرها بأنها لم تحبّه هو وإنّما أحبت الحيوان الكامن فيه. * تقدم المسرحية في مسرح مونو - بيروت، النصّ للكاتب المسرحي الأسوجي أوغست سترندبرغ 1849 - 1912 وعنوانه الأصلي "الآنسة جولي" 1888 وقد اختار جواد الأسدي عنوان: "جنون في الأسطبل" مديرة الإنتاج ألن كرم، مساعد مخرج: حسن فرحان