في عام 1898 كان أوغست سترندبرغ قد أنجز كتابة القسم الأول من مسرحيته الكبرى «في الطريق الى دمشق» التي ستتألف في نهاية الأمر، من ثلاثة أقسام لن يقدم منها - عادة - إلا الأول. وهو في ذلك الحين كان يعيش جملة من الاضطرابات النفسية التي راحت تشكل محور تأملاته الخاصة، والتي كان حملها في المسرحية لشخصيتها المحورية «الغريب». في ذلك الحين وفي نص له عرض فيه بعض أحواله قال إن «الغريب» يعاني شيئاً لا يمكن ربطه بالحال الجسدية ولا بالحال السيكولوجية... ومن هنا «فإن المعالجة الطبية والمعالجة السيكولوجية غير قادرتين على شفائه». بعد ذلك بسنوات طويلة سيتمكن فرويد من اكتشاف (ولنقل: اختراع) التحليل النفسي. والحقيقة أن هذا التحليل النفسي الذي لم يكن له بعد اسم أيام كتابة سترندبرغ نصه كان هو المعني بالكلام... ذلك أن من يقرأ - أو يشاهد – «في الطريق الى دمشق»، سيخيّل إليه أن لبّ موضوعها هو التحليل النفسي، بحيث يبدو أن سترندبرغ هو «المبتكر» الأول، أما فرويد فإنه من أطلق الاسم ووضع القواعد العلمية. ذلك أن الكاتب المسرحي السويدي الكبير، لم يكن عالماً نفسياً، بل فناناً. ولنضف الى هذا انه، في تلك المسرحية، وضع أيضاً الأسس لتيار فني طويل - عريض، ارتبط لاحقاً بالتحليل الفني هو «التعبيرية» التي ستصبح لاحقاً ألمانية أساساً. انطلاقاً من هنا يمكننا أن نحذو حذو كافكا الذي كان يرى نفسه دائماً في حماية سترندبرغ، وكذلك حذو مبدع آخر أقرب إلينا زمنياً هو انغمار برغمان... فالاثنان يعلنان دين سترندبرغ عليهما، معتبرينه رائد الحداثة والتحليل - نفسية في الإبداع، أي حداثة القرن العشرين في جزء كبير منها. وفي هذا الإطار واضح أن «في الطريق الى دمشق» تلعب دوراً أساسياً. ومع هذا لا شك في أن سترندبرغ استقى موضوعه مباشرة، من فصلين من فصول «الكتاب المقدس»: فصل رحلة القديس بولس الى دمشق بحثاً عن الترياق، في شكل أساسي، وفصل ولادة حواء من ضلع آدم في شكل اكسسواري... من دون أن يفوته وهو على مشارف القرن العشرين أن يضفي على موضوعه طابعاً شديد الراهنية والحداثة هو غوص الإنسان في داخل أعماقه بحثاً عن مشكلاته وحلولها. فكيف فعل ذلك؟ الجواب يكمن في ذلك الارتباط المدهش بين حياة الكاتب ونتاجاته، بين آلامه وقدرته على سبر أغوار تلك الآلام. كما أشرنا، تتألف مسرحية «في الطريق الى دمشق» من ثلاثة أقسام، أشهرها وأكثرها حضوراً هو القسم الأول الذي يقدم عادة منفرداً. ولنشر منذ البداية أن ليس ثمة في المسرحية دمشق ولا من يحزنون. فدمشق هنا مجرد رمز لحيّز الترياق، سواء أكان دينياً أو نفسانياً. وهي في شكل أكثر وضوحاً رمز للكنيسة وللطبيب. المكانان اللذان تشاء «السيدة» في المسرحية أخذ «الغريب» إليهما على أمل أن يشفياه من آلامه. ولسنا في حاجة الى التأكيد هنا على أن سترندبرغ لا يرى برءاً ل «غريبه» مما يعاني على رغم كل المحاولات. غير أن هذه النتيجة ليست العنصر الرئيس في هذا العمل. العنصر الرئيس هو التفاصيل، العلاقات، المواقف، وعودة «الغريب» في كل لحظة الى داخله. بل وما يبدو لنا أحياناً من أن كل الشخصيات الرئيسة تبدو مخلوقة من داخل أفكاره وهواجسه على رغم وجودها الفيزيائي الطاغي، ما إن تبدأ بالظهور على الخشبة. حينما شرع سترندبرغ في كتابة الجزء الأول من «في الطريق الى دمشق» كان يضع حداً لتوقفه عن الكتابة، إذ انه لم يكن قد كتب أي مسرحية خلال السنوات الست السابقة. وعلى رغم أن ذات سترندبرغ ودواخله موجودة في العدد الأكبر من أعماله القديمة، إلا انه كان من الطبيعي، بعد تأمل وآلام دامت سنوات طويلة، أن يسجّل في عودته نمط تأملاته في الحياة في شكل يربط أساساً، بين حياته وكتاباته. ومن هنا يمكن اعتبار عودته الى الكتابة، نتيجة لرغبة حادة لديه في أن يجعل من العمل الجديد، صورة لحياته وانعكاساً لفلسفته في الحياة، بالتواكب مع رغبته في إحداث ثورة حقيقية في تقنيات الكتابة المسرحية. ومن بين هذه التقنيات خلق الشخصيات مباشرة على الخشبة. وأهم هذه الشخصيات، بالطبع، بعد «الغريب»، شخصية «السيدة» التي سيرى النقاد فيها توليفة من النساء الثلاث اللواتي كان سترندبرغ تزوجهن تباعاً. أما بالنسبة الى «ديكور» المسرحية فهو يتألف من أماكن عدة كان سترندبرغ قد تجول فيها مع زوجته الثالثة فريدا أوهل، وتضم بين أماكن أخرى: بيت أهل فريدا في النمسا، والمستشفى في فرنسا الذي كان سترندبرغ قد عولج فيه، وشاطئ البحر الذي كان أمضى فيه شهر العسل مع فريدا. غير أن هذا كله ليس سوى الديكور الخارجي. أما الديكور الحقيقي فداخلي، لأن الرحلة في الأساس هي الرحلة التي يقوم بها «الغريب» داخل ذاته بحثاً عن خلاصه وتناسقه مع العالم ومصالحته مع ذاته: إنها الرحلة نفسها التي يقوم بها القديس بولس الى دمشق. وسترندبرغ لا يخفي هذا عنا، بل يقوله صراحة وفي غير مكان، في المسرحية، وفي نصوصه الشخصية الأخرى. و «الغريب» هنا مثل القديس بولس، ومثل الكاتب نفسه، يعاني منذ البدء اضطرابات وجودية ونفسية يعجز عن أن يجد لها اسماً أو سبباً، أو حتى عن تحديد تمظهرها في كيانه... ما يدفعه الى السؤال في كل لحظة عما إذا لم يكن على حافة الجنون. وهنا لا بد من أن ندرك منذ البداية أن معظم الشخصيات التي يلتقيها «الغريب» خلال تجواله، إنما هي شخصيته نفسها، أو على الأقل قرائن له تظهر وتختفي بحسب تطور فكره وآلامه. أما «السيدة» فهي الثابت خلال التجوال كله. والآن، بعد هذا كله، علينا حقاً أن نسأل عم تتكلم هذه المسرحية؟ ببساطة عن «الغريب» الذي لا اسم له في المسرحية. وهو كاتب شهير أدت به أزمته الوجودية الى ترك زوجته وأطفاله. وهذا الغريب فيما هو يقصد دائرة البريد ليرى ما إذا كانت حوالة تضم حقوق أعماله قد وصلت، يلتقي «السيدة» ويشعر من فوره بانجذاب نحوها. أما هي فتبدو منذ البداية متأثرة بكمّ الحزن الذي يلوح عليه، وتقرر مساعدته... وتكون النتيجة أن تهجر هي الأخرى زوجها وتتبع «الغريب» في حلّه وترحاله... وبعد سلسلة من التقلبات التي تتضمن قطيعة بين الغريب والسيدة، يحلم الغريب بأن زوجته التي تركها تزوجت من الطبيب زوج السيدة. وهو إذ يزور الطبيب يجده بالفعل يستعد للزواج... ومن هناك يعود الى مكتب البريد ليجد حقوقه في انتظاره ولكن... بعد أن فات الأوان، فلو كان المال وصل باكراً، كان من شأن ذلك أن يخفّف من معاناته. وعلى ذلك المشهد ينتهي القسم الأول. وفي القسم الثاني من المسرحية نجد الغريب وقد صار مع السيدة، زوجين بدآ يعذبان بعضهما بعضاً وينفصلان ثم يلتقيان. وإذ تحبل السيدة بابنهما تلمّح أمها بأن الطفل ليس ابن الغريب الذي بعد سلسلة زيارات ولقاءات يتجه نحو ممارسة الخيمياء ويخيل إليه انه نجح في تحويل أي معدن الى ذهب. وإذ يتوجه لحضور حفل تكريم يقام له لتحية اختراعه يتبين أن الحفل مزحة مارسها بعض المدمنين المجانين. وإذ يطلب منه أن يدفع كلفة الحفل، يعجز عن ذلك ويرمى في السجن... ثم يطلق سراحه ويعيش اضطرابات تنتهي به وقد قرر التوجه الى دير يتوب فيه عن كل ما فعل. وينتهي القسم الثاني هنا، ليبدأ القسم الثالث الأخير الذي هو عبارة عن محاولة يقوم بها الغريب وغيره من الشخصيات التي سبق أن التقيناها، للوصول الى درب الخلاص. أما النهاية فرحلة يقوم بها الغريب داخل رواق في الدير مملوء بصور أشخاص لكل منهم رأسان (رمز لتناقض الكائن البشري). ويتلو هذا مشهد أم وطفلها تبادله مع الغريب إذ كان على وشك أن يدفن. وهكذا يولد من جديد وقد صار له أخيراً اسم: الأخ جون. من الواضح أن أوغست سترندبرغ (1849 - 1912) إنما شاء من هذه المسرحية المثلثة، التي تتوسط - زمنياً - مساره المهني، أن يقدم خلاصة لأفكاره وحياته الداخلية. ويقيناً انه نجح في ذلك، حتى وإن كان الجمهور العريض لم يعرف حقاً سوى القسم الأول، وحتى وإن كان هذا الجمهور قد اكتفى دائماً بتحري الطابع الديني لعمل يبدو مع هذا متأثراً بكتّاب ومفكرين لم يكن الدين همهم الأول في كتاباتهم، مثل إميل زولا وإدغار آلن بو وفردريك نيتشه. مهما يكن يظل لهذه المسرحية ككل مكان أساس ومحوري في حياة وأعمال صاحب «الحلم» و «الآنسة جولي» و «اللعب بالنار» و «الأب» وغيرها من كتابات ارتبطت بالحداثة المسرحية والفكرية في شكل وثيق.