صدر عام 1992 ببيروت كتابان في الاختلاف الفقهي لفقيهين حنفيين هما "طريقة الخلاف بين الأسلاف" لعلاء الدين محمد بن عبدالحميد السمرقندي -552ه، و"تحفة الترك فيما يجب أن يُعمل في المُلْك" لنجم الدين ابراهيم بن علي الطرسوسي -758ه. والجديد في أمر الخلاف الفقهي في هذين الكتابين انهما لفقيهين حنفيين. إذ نعرف كثيراً من كتب الخلاف لفقهاء المذاهب وكذلك الأحناف. بيد أن أبرز ما في الكتابين خصوصاً الثاني منهما - أعني تحفة الترك - هو ما يطلعاننا عليه من عِللٍ وأسبابٍ سياسية للتمايزات الفقهية تتجاوز تمايزات المناهج والأدلّة. فالطرسوسي يحوِّل الجدل مع الشافعية من معاصريه الى صراع على السلطة والسلطان في العصر المملوكي. وهو يصرِّح بذلك عندما يرى في مطلع الكتاب الذي صدر بتحقيقي عن دار الطليعة أنه من مصلحة الدولة والسلطان بمصر والشام إفراد المذهب الحنفي باعتباره مذهب الدولة كما هو مذهب المماليك الحاكمين دون سائر المذاهب السنّية الأخرى. ويلجأ في سبيل ذلك الى جدل يصل الى حدود المغالطة عندما يزعم أنّ الشافعية لا يُقرُّون بشرعية السلطة المملوكية بخلاف الأحناف. وتكمن خطورة هذه التُهمة في الحقيقة القائلة أن الأكثرية الساحقة لسكان مصر والشام كانوا وقتها من الشافعية ولا يزالون. وحجة الطرسوسي في ذلك أن الشافعية يشترطون في السلطان أن يكون قرشياً والمماليك ليسوا قرشيين بل ليسوا عَرَباً. والمغالطة في الأمر هنا تأتي من وجهين. فسائر الفقهاء المسلمين في ذلك العصر كانوا يشترطون القرشية في السلطة بمن في ذلك الأحناف. لكن السلطة من وجهة نظرهم أو الشرعية العليا لم تكن للسلطان بل للخليفة" الذي دأب منذ القرن الرابع الهجري على تفويض "السلاطين" بإدارة الدولة، وتسيير أمور المسلمين باسمه. ومن أجل الحصول على تلك "الشرعية" بالذات، عمد المماليك إبّان وصولهم للسلطة عام 659ه الى استقبال افراد من الباقين على قيد الحياة من الأسرة العباسية بعد استيلاء المغول على بغداد عام 656ه، واعلانهم خلفاء، بحيث يقومون بعد الإعلان الاحتفالي بتفويض السلطان المملوكي بتدبير أمور الإسلام والمسلمين بإسمهم. وظل الأمر على هذا النحو حتى سقوط الدولة المملوكية على يد العثمانيين عام 923ه/1517م. والطريف في الأمر هنا أن الفقهاء الأحناف تجاوزوا مسألة القرشية في الخليفة أيام العثمانيين عندما صاروا المذهب الرسمي للدولة، دونما مناقشة فقهية لذلك. بينما ناقش الشافعية المسألة قبل ذلك بقرون عندما ذهب إمام الحرمين الجويني -478ه في "الغياثي" و"الإرشاد" الى إمكان التخلي عن شرط القرشية فيمن يلي الأمر. ثم ناقش ذلك ابن خلدون -808ه المالكي المذهب في مقدمته المشهورة ذاهباً الى أن الأمر تابعٌ للعصبية، وأن حديث الرسول صلّى الله عليه وسلم "الأئمة من قريش" إنما كان يصف الواقع ولا يشرّع لذلك. وما دام الواقع قد تغيّر، وسقطت العصبية القرشية فإن القرشية ما عادت شرطاً فيمن يلي أمور المسلمين باسم الخلافة. على أن السمرقندي والطرسوسي يلمّحان الى مسألة أخرى ربما كانت وراء حرص المماليك على الشرعية القرشية. فالخليفة ما عادت له قُوةٌ سياسيةٌ منذ القرن الرابع الهجري. لكنّ "الخلافة القرشية" كانت لها شرعية تاريخية أجمع عليها المسلمون، وما عاد ممكناً للملوك والسلاطين البازغين في أفق أرض الإسلام منذ القرن الرابع أن يتخلّوا عنها، حرصاً منهم على تشريع سلطتهم أو شرعنتها في أعينُ رعاياهم. وهذا هو سبب حرص سائر الملوك والسلاطين من الغرب الإسلامي الى بلاد ما وراء النهر على الحظوة باعتراف الخليفة العباسي القرشي بهم وإن لم يستطع واقعياً التأثير في مصائر سلطناتهم بنفسه أو جيوشه. وقد واجه المماليك التحدي نفسه. إذ إنهم كانوا يعملون في جيوش الأيوبيين الذين حظوا باعتراف العباسيين وتأييدهم طوال ما يقارب القرنين من الزمان. وما اعتاد الناس منهم أن يلوا الأمر بأنفسهم رغم فعاليتهم في مصارعة الصليبيين ثم المغول. وهكذا عمدوا الى استقبال أو استقدام بقايا الأسرة العباسية الى مصر لطمأنة الناس بأن الأحوال لا تزال كما كانت إبّان وجود العباسيين ببغداد، والأيوبيين بمصر والشام. ثم إن المماليك ما استطاعوا السيطرة في غير مصر والشام والحجاز واليمن لاحقاً. أما ما وراء ذلك من مشرق العالم الإسلامي" فإن المغول كانوا يجتاحون تلك الديار، ويحاولون السيطرة أيضاً على الشام ومصر وآسيا الصغرى. فكان من حُسْن السياسة وبُعْد النظر تبني الخلافة العباسية لتحويل مصر الى مركز لدار الإسلام، يتطلع اليه المسلمون في المشرق والمغرب، ويمكن للمماليك استخدام هذا الرصيد في الصراع وبخاصة أن الصليبيين كانوا لا يزالون في بعض سواحل الشام، فضلاً عن الخطر المماثل في امكان تحالف الطرفين ضد البقية الحرة من عالم الإسلام. وازداد الخطر مثولاً مع اقبال الإيلخانيين بعد ثلاثين عاماً على الإسلام. فانقلب الصراع السياسي الى صراع على السيطرة على دار الإسلام من جانب دولتين مسلمتين أو إسلاميتين: المملوكية والإيلخانية. مع مثول هذا الخطر ازداد حرصُ المماليك على احتضان الخلافة عندهم، كما انهم سلكوا مسلكين في الصراع الايديولوجي" احدهما التأكيد على أحقيتهم بالسلطة لاحتضانهم الخلافة. والآخر المجادلة في صدق إسلام المغول. ومعروفٌ أن الفقيه الكبير ابن تيمية -728ه شنّ حملة عنيفة على المغول الإيلخانيين واتهمهم بالنِفاق، وبعدم الصدق في الإسلام. بيد أن أهمية كتاب الطرسوسي بالذات لا تكمن فقط في أنه يُطْلِعُنا على طرائق صراع الفقهاء على السلطة والسلطان" بل إنه بالإضافة لذلك يُطْلِعُنا على عدة أمور أخرى. فرغم تأكيده على الطبيعة السياسية للصراع، ووقوف الأحناف الى جانب الدولة" ما استطاع موافقة الدولة في عدة أمور رأى أنها تخالف المذهب الحنفي" وهي أمور فقهية واقتصادية في جوهرها. ويتضح من النقاش أنها كانت مركز الاهتمام بالنسبة للدولة، وليس الأمور السياسية. وتتحدد وجوه الخلاف بين الأحناف والدولة كما بدت في الكتاب في أربع نقاط: أخذ الزكاة من أموال الأيتام الصِغار، وحق ذوي الأرحام في الإرث، ومدى حق الدولة في التدخل في شؤون الوقفين الأهلي والخيري، وجوازُ تزويج الصغار. فالمتوارث في المذهب الحنفي أنه ليس على الأيتام الصغار زكاة في أموالهم بينما يرى الشافعية وجوب الزكاة في سائر الأموال إذا بلغت النصاب. ولذا عمد السلاطين المماليك الى تولية قاضي قضاة الشافعية أمور التركات لما للدولة من مصلحة في ذلك. ويرى الفقهاء الأحناف ان لذوي الأرحام أن يرثوا عند غياب الأصول والفروع بينما لا يرى ذلك الشافعية" وفي مثل هذه الحالة تؤول التركة الى الدولة. ولا يرى الفقهاء الأحناف جواز تزويج الصغير والصغيرة من جانب القاضي إن لم يكنْ نصٌّ على ذلك في تقليده بينما لا يشترط الفقهاء الشافعية ذلك. ويشترك الأحناف والشافعية في الحرص على الأوقاف بينما كانت الدولة تلتمس حيلاً كثيرة للتدخل فيها. وهكذا فإن الطابع السياسي للصراع بين الفريقين على الاقتراب من السلطة يقف عند حدود هي حدود التقاليد الفقهية المتوارثة عند كل منهما. فالبشاشة المتعارف عليها بين الأحناف والدولة رغم صدقها تاريخياً تبقى محدودة بحدود الراجح والظاهر والمفتيُّ به في المذهب. ومن هنا تأتي تركيبية العلاقة فلا يمكن تبسيطها كما يحاول الطرسوسي ان يفعل دون أن ينجح في ذلك في النهاية. وهكذا نرى انه لم يكن من مصلحة الدولة في شيء إفراد المذهب الحنفي بالسلطة" وإن يكن المماليك يتديّنون به، وبخاصة أن كثرة المصريين والشاميين كانت شافعية. وتبدو استقلالية الأحناف والفقهاء النسبية طبعاً عن الدولة في النقد الذي يوجهه الطرسوسي اليها او الى ادارتها كما فعل فقهاء اصلاحيون من سائر المذاهب قبله وبعده، من مثل ابن تيمية -728ه، والسبكي -771ه، والمقريزي -845ه. إنه يقيم حداً فاصلاً بين الشريعة والسياسة. إذ يزعم ان لجوء ادارات الدولة الى "السياسة" في النظرة الى كثير من الأمور كان سبباً من أسباب الفساد والتجاوزات في الادارة مما سبب ازعاجاً لفئات الناس. لكن الطرسوسي لا يوضح ما يقصده بالسياسة الا اذا اعتبرنا دعوته لإلغاء منصبيّ المحتسب وصاحب المال، والعهد بهما الى القاضي تحديداً للجهات التي يرى أنها تسير بمقتضى السياسة لا الشريعة. ويكمن وراء هذا التحديد نقدٌ حنفيٌ للعسكريين الذين سيطروا على الجهاز المدني للدولة فألغوا أو كادوا منصب الوزير - وهو رئيس الإدارة المدنية - كما أعطوا صلاحيات قضائية للمحتسب والحاجب وكاتب السر" وفي ذلك ولا شك اضرارٌ كبيرٌ بالناس. والمعروف أن نقد الفقهاء للجوء الدولة الى السياسة بدأ منذ القرن الخامس الهجري أيام السلاجقة. فعل ذلك الجويني -478ه في "البرهان" و"الغياثي"، كما فعله ابن عقيل الحنبلي -513ه، وابن تيمية -728ه، وابن قيم الجوزية -751ه. وربما كان ذلك وراء ظهور كتب "السياسة الشرعية" عند الفقهاء التي تحاول أن توضح أن السياسة هي غير التدبير، وانها تقتصر على "تغليظ العقوبة"، وانها تبقى استثناءً وانه لا يحْسُنُ اللجوء اليها باعتبارها عُرْفاً شرعياً. ويصل الأمر الى ذروته عند المقريزي -845ه في "الخِطط" عندما يزعم ان السلاطين المماليك يخرجون على شرع الله ويحكمون بالسياسة المأخوذة من الياسا المغولية التي هي بمثابة الشريعة عند الشعوب التركية في أواسط آسيا" ومنهم المماليك الحاكمون بمصر والشام. هكذا تتعدد أغراض الطرسوسي من وراء كتابه الصغير هذا. ففي حين يصرُّ السمرقندي في كتابه "طريقة الخلاف" على البقاء غالباً في حيّز الخلاف والجدل الفقهي، يتجاوز الطرسوسي خلافه مع الشافعية ومحاولات الاقتراب من السلطنة المملوكية الى اعتبار "تحفة الترك" كتاباً اصلاحياً أو مشروعاً فقهياً/سياسياً لإصلاح الدولة. ولذا يعود للتذكير بكتب "الأحكام السلطانية" التي ألّف في نطاقها الشافعية أولاً ثم الحنابلة. وقصّر الأحناف في مجالها. إذ يقسِّم الطرسوسي تحفته الى فصول تشبه الى حدّ ما فصول الماوردي -450ه في كتابه المشهور: الأحكام السلطانية وإنْ ظلّ اقصر نفَساً منه، وأقل هدوءاً وموضوعية، وتتضمن تلك الفصول معالجة للوجوه السليمة من وجهة نظره في معالجة سائر المسائل من تعيين نواب السلطنة والوزراء والقضاة الى النظر في أحوال الرعية والأوقاف والجسور والقلاع وبيت المال والبُغاة والجهاد وقسمة الغنائم. وهو ينقل كثيراً في سائر الفصول عن الكتب الفقهية الحنفية. ويقل الجديد الاجتهادي فيما يورده دون ان يعني ذلك أنه لا يبذل جهداً ملحوظاً لتطبيق الأحكام على الوقائع المعاصرة له. ويمكن مقارنته في هذا الصدد بكتاب معاصره الفقيه الشافعي الكبير بدرالدين ابن جماعة -733ه في كتابه: تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام. ويرد عليه في معالجته التصنيفية هذه ما يرد على كتاب ابن جماعة من تعقد أو تركيبية العلاقة بالواقع" وهذه مسألة لا تزال موضع أخذ ورد بين الدارسين. فقد سبق لشاختSchacht بل وغب Gibb أنْ زعما أن رؤى الفقهاء في مجال "الأحكام السلطانية" أو الفقه السياسي بالذات هي رؤى مثالية تارة أو تبريرية تارة أخرى. ولا يسهل في هذا المجال النفي أو الإثبات على إطلاقهما. فلا شك أن الرجلين يستندان الى تقاليد عريقة في مذهبيهما لرؤية المسائل واقتراح الحلول لها. ولا شك ايضاً أن التقيد بالتقاليد يحد من القدرة على رؤية الوقائع المتغيرة. ومعروف ان الفقهاء المالكية عمدوا الى ابتداع فن "النوازل"، كما عمد الآخرون الى "الفتاوى" لمسايرة متغيرات الواقع دون أن يزيل ذلك تعقيدات علائقهم به. لكن لا يمكن انكار رؤية الفقهاء، وفقهاء الأحكام السلطانية بالذات لمتغيرات الأحوال، وان بقيت "الأبواب" و"أصول المعالجات" متوارثة. فالمدارس الفقهية اتجاهات أو "فلسفات" مؤصَّلة لقراءة النصوص وتنزيلها على الوقائع، وهي اتجاهات واسعة لا تشكل خطاً حصرياً مستقيماً وإلا لفقد المذهب أو لفقدت المدرسة تماسكها وتشرذمت عبر العصور أو انقرضت كما حدث لكثير من المذاهب كالأوزاعية والجريرية والثورية والظاهرية... الخ. وعلى سبيل المثال، فإن الطرسوسي يعقد باباً أو فصلاً لأحكام البغاة والخوارج على السلطان - شأنه في ذلك شأن سائر الفقهاء في أواخر كتبهم من قبل ومن بعد. وهو لا يخرج في فصله ذاك عن خطته في الفصول الأخرى من ايراد لآراء القدامى بشأن المعارضة السياسية. لكن الواقع لا يغيب عن نظره وهو يقارن بين الأقوال والتعريفات، وطرائق التعامل مع المعارضة من جانب السلطة. إذ يصل من تلك المقارنات بين نصوص القدامى الى تحديدات جديدة تراعي المستجدات، وتشكل نقداً لأساليب الدولة في تعاملها مع المعارضة. يتجلى ذلك في تفريقه بين البُغاة والخوارج التاريخيين، وفي الإصرار على الطابع السياسي وليس الديني للمعارضة الداخلية، وفي ضرورة تلبية المطالب الممكنة أو المعقولة للمعارضين حرصاً على وحدة الجماعة، وابتعاداً عن سفك الدم. يقع كتاب الطرسوسي أو نصُهُ في زهاء المائة صفحة. وقد درستُ الكتاب وسياقاته وقضاياه في خمسين صفحة تقديمية، وأرجعتُ كل نصوصه وإشاراته الى مصادرها الأصلية. وصدر بدار الطليعة في سلسلة الفكر السياسي الإسلامي التي أتابعُ اصدارها منذ العام 1978، وقد صدر في نطاقها حتى اليوم خمسة نصوص، ويصدر نصّان جديدان في العام 1993. أما كتاب السمرقندي فيقع في زهاء الخمسمائة صفحة، وهو مرتب على أبواب الفقه. والنص المنشور واضح ومفهوم لكن المحققين لم يبذلا جهداً في الإحالات والمقدمة الدراسية. * أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية ورئيس تحرير مجلة الاجتهاد.