الكتاب: تحفة الترك المؤلف: نجم الدين الطرسوسي المحقق: محمد منصري الناشر: المعهد الفرنسي للدراسات الغربية - دمشق 1997 ينشر المعهد الفرنسي للدراسات العربية العديد من المؤلفات التراثية العربية للبحاثين الأجانب، فيتم تحقيقها ودراستها باللغة الفرنسية ويقدم متن المخطوطة فقط باللغة العربية. وهذا ما حصل لكتاب "تحفة الترك فيما يجب أن يعمل في الملك" الذي يشكل وثيقة مهمة عن المرحلة المملوكية، فقد وضعه الطرسوسي لاقناع السلطان بضرورة اتباع المذهب الحنفي لصيانة ملكه والحفاظ عليه، وإبراز المذهب الشافعي بصورة المعارض للحكم ولشرعية السلطان نتيجة اجتهاداته في مسألة الخليفة. ومن خلال اثني عشر فصلاً يلقي الكاتب نظرة نقدية على المؤسسات السياسية بأجمعها وموقع رجال الشافعية فيها، ويبرز عبر المواضيع التي درسها حدة الصراع الذي يخوضه ضد المذهب المنافس. يبين المحقق في مقدمة الكتاب أن اختيار "كتاب التحفة" وتقديم دراسات عنه كان أمراً صعباً، فعلى رغم الكتابات التي لا يستهان بها للطرسوسي فإنه لم يتمتع بسمعة براقة تمكن الباحث من تحديد مكانته العلمية. ويبدو أن شهرته لم تتجاوز اطار المدرسة التي درس فيها الفقه وأصوله وحلقات بعض علماء دمشق. وهذا الأمر يفسر عدم تقديم ترجمة وافية عنه من قبل المؤلفين الأساسيين الذين اكتفوا بتعليق بسيط على مؤلفاته. كما وأن قراءة المؤلفات المعاصرة لزمن كتاب "تحفة الترك" لا تقدم فائدة كبيرة، لأن بحث الطرسوسي مليء بالاسنادات عن ممارسة السلطة من قبل المماليك وبطبيعة الخلاف بين المذهبين الحنفي والشافعي. ومعظم مصادر العصر المملوكي لا يعطي سوى معلومات ضعيفة عما طرحه المؤلف من خلافات، فالمقريزي الذي اهتم بتاريخ مصر المملوكي وعاش في دمشق فترة من الزمن واختار المذهب الشافعي بعد أن نشأ على الحنفي، لم يترك لنا شيئاً يذكر عن طبيعة الصراع بينهما بشكل يفيد في قراءة ما قدمه كتاب "التحفة". ولكن يبدو أن عماد الدين بن الأثير صاحب كتاب "البداية والنهاية" تطرق الى موضوع الطرسوسي، واضافة الى الأهمية التاريخية لكتاب "البداية والنهاية" فإنه يتطرق بشكل ناقد لبعض المواضيع القانونية للفترة المملوكية، فيبرز على سبيل المثال التناقض بين ابن السبكي والموظفين المملوكيين الذين كانوا يختلسون من صندوق الأيتام. وتوضح نظرة ابن الأثير بعض النقاط المرتبطة بشخصية الطرسوسي كونه يشكل مرجعاً أساسياً لفهم كتاب "التحفة". الفائدة الأساسية لكتاب "تحفة الترك" تكمن في أصالته، فهو ليس مجموعة مسائل قانونية فقط، بل هو بحوث فقهية مرتبطة بجملة أمور قانونية وحقوقية. وعلى رغم الشكل الوصفي الذي نجده للأجهزة الإدارية المختلفة التي تدير النظام المملوكي، فهناك لذلك أحكام وعالم حنفي كان أكثر من قاض شرعي ورجل قانون، فهو لا يتردد في صياغة انتقادات حادة لمن يراهم ابتعدوا عن الخط المستقيم سواء من الطبقة الحاكمة أو المكلفين بإدارة الشؤون الدينية. ولم تستند أحكامه في فصول الدراسة كافة الى الاحترام الأعمى للمؤسسات بل ارتبطت بالأفعال، فالطرسوسي جرد القضاة الشرعيين من هالة الاحترام الخاصة بهم فاضحاً هفواتهم وطباع بعضهم. وجاء نصه بياناً لإمام من المذهب الثاني في دمشق ليظهر عدم تعاطف مطلق مع أصحاب المدرسة الشافعية المنافسة. ولم تمنعه علاقاته السياسية مع المماليك من اظهار النقد عند اللزوم خصوصاً إذا قاموا بشهادة غير عادلة. أو مزجوا الأمور الدينية التي ليست من اختصاصهم بشؤون الدنيا وبالسلطة التي يملكونها. وأوضح الطرسوسي في مقدمة كتابه أن موضوعه الأساسي هو توجيه النصح، واظهار الطريق الواجب اتباعه لخير الأمير والرعية والدفاع عن مصالح الدولة واستقرار السلطة المركزية. لذلك مارس الكاتب حق الرقابة على شؤون الدولة لأنه رجل قانون مقتنع بأن واجبه يحتم عليه التدخل في السياسة المملوكية، فيكشف الهفوات ويظهر المذنبين من رجال السيف والقلم ويوضح للأمراء الطريق المتبع لاختيار مساعديهم. وعبر هذا الأسلوب يظهر قيمة المذهب الحنفي والميزات التي يمكن للمماليك كسبها في حال موافقتهم على المدرسة الحنفية. لم يتطرق الطرسوسي في بحثه الى "أصول الفقه" لأنه عالج مسائل قانونية بالعمق، وكان همه الاقناع فاعتمد على الأمثلة المحددة والعملية. ونتيجة لهذا الأسلوب ترك الطرسوسي للدارسين المعاصرين فائدة مزدوجة: فهو جنبهم بالدرجة الأولى تحاليل نظرية طويلة لا تملك رابطاً من الأحداث في عصره، ومن جهة أخرى مكنهم من الاطلاع على شهادة لقاض ممارس تصدر عنه الفتاوى والأحكام. وهذه المعرفة مهمة عند النظر الى طبيعة الممارسات الادارية في عصر المماليك. ونظراً الى خصوصية "التحفة" فإن المحقق قدم دراسة بالفرنسية قبل ايراد نصها باللغتين العربية والفرنسية، فحاول الكشف عن شخصية الطرسوسي عبر قراءة البيئة العلمية والاجتماعية التي عاش فيها، وسعى الى سبر الأسباب التي دعته الى الصراع ضد المذهب الشافعي. وكشف عن الأسباب التي جعلت المدرسة الشافعية متفوقة على المذاهب الأخرى، فدرس تأسيس المذاهب في دمشق وأحصى الشخصيات التي ساهمت في اطلاق المؤسسات التعليمية. ومن ناحية أخرى درس الباحث الاصلاحات التي قام بها السلطان المملوكي بيبرس وأثرها في تنظيم وظائف القضاة.